كارهو ميركل العرب: أقلية صاخبة!

وليد بركسية

الإثنين 2021/09/27
على صدى الانتخابات التشريعية ونهاية حقبة المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، التي بقيت في قمة السلطة 16 عاماً، كان من المتوقع أن تمتلئ مواقع التواصل الاجتماعي بمنشورات عربية تودع "ماما ميركل" بأسلوب العرفان المتعارف عليه في المنطقة العربية تجاه زعماء السياسة ومشاهير الفن، لكن ذلك المشهد كان باهتاً لسبب واحد فقط هو وجود هجمة مضادة من إسلاميين وشوفينيين وممانعين على السياسية التي نالت إعجاباً عالمياً متزايداً في السنوات الأخيرة، بسبب مواقفها من قضايا الهجرة واللجوء ووقوفها في وجه السياسات الشعبوية، بما في ذلك الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.

وفيما نالت ميركل ألقاباً شعبية متعددة من بينها "زعيمة العالم الحر" في زمن واجهت فيه الديموقراطية نوعاً من عدم اليقين بسبب صعود تيارات اليمين المتطرف والزعماء الشعبويين على ضفتي الأطلسي، فإن مهاجميها العرب في "تويتر"، على قلّتهم، وصفوها بأنها "ملحدة مُشركة" أو "زعيمة للاستعمار" وغيرها من العبارات المشينة حقاً، والتي تعيد للأذهان سيلاً مشابهاً من المواقف المتشنجة التي تظهر انقسام العالم إلى كتل لا تتسامح مع بعضها البعض، ليس فقط على مستوى السياسات الشعبوية التي باتت آفة عالمية في السنوات الماضية، ولا على مستوى الخطاب الدعائي الذي تصدره دول مثل تركيا وإيران في الشرق الأوسط، بل أيضاً على المستوى الفردي الضيق.

ورغم أن الهجمة تبقى ضئيلة في الحجم، إلا أن صوتها يظهر واضحاً في "تويتر" تحديداً، واللافت أنها أقرب إلى رد فعل متشنج وتأخذ شكل تعليقات على تغريدات يودع أصحابها ميركل أو يتحدثون عنها بإعجاب، فيما ترتكز على نقاط متكررة يتشاركها كافة المعادين للغرب في المنطقة عموماً، بالحديث عن الإرث الاستعماري وسرقة خيرات الشعوب وإسهام الدول الأوروبية في حروب الشرق الأوسط من أجل الاستثمار في قضية اللاجئين بوصفهم عمالة رخيصة وماهرة، وغير ذلك من الترهات التي يمكن متابعتها باستمرار على شاشة التلفزيون السوري الرسمي منذ ثمانينيات القرن الماضي.


سبب آخر يورده كارهو ميركل في هذا السياق هو الدين بوصفه عنصراً فاعلاً في الحياة العربية ثقافياً وسياسياً. أحد المغردين مثلاً يتمنى لو كانت ميركل مسلمة كي يعجب بها فعلاً رغم أهمية ما قامت به على المستوى الإنساني والسياسي تجاه اللاجئين تحديداً. لا يعتبر ذلك المشهد مربكاً طالما أن الدين يبقى حتى اليوم بالنسبة لكثير من الأفراد مرجعية تحدد معاني الهوية والانتماء، لكنه يبقى مشكلة حقيقية في القرن الحادي والعشرين الذي باتت فيه الأديان، حسب وصف مفكرين، عائقاً أمام التطور البشري بعدما كانت في يوم من الأيام عاملاً دافعاً للحضارة الإنسانية بمساهمتها المباشرة في تشكيل الدول والإمبراطوريات التاريخية.


ويظهر التعامل مع ميركل على أنها مشركة وملحدة من قبل بعض المتطرفين، شيئاً واحداً فقط وهو كيفية نجاح الدعاية الإسلامية في التأثير في الأفراد نحو هذا المستوى من العنف اللفظي الذي قد يتطور نحو عنف من مستوى آخر في حال توفرت الظروف الملائمة أو في حال انتقال الدعاية إلى مستوى آخر من التطرف. ولا يتعلق الأمر هنا بالدعاية الجهادية، بل بنوع من الخطاب المحافظ الذي تبثه وسائل إعلام وشخصيات ومشاهير ودول كاملة تدعي أنها تمثل الإسلام وتحافظ عليه في حرب مفترضة مع "أعداء الإسلام"، ويبدأ المشهد هنا ببشار الأسد الذي بات يلقي خطابات من المساجد أو رجب طيب أردوغان بوصفه "أسد السنّة" كما يطلق عليه معجبوه وليس انتهاء بالمرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي.

وفيما حافظت مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل إعلام عربية معينة، على وتيرة ثابتة لدى الهجوم على الثقافة والسياسة الفرنسية منذ نحو عام كامل بسبب الرسوم الكاريكاتورية التي تنشرها مجلة "شارلي إيبدو" الساخرة، فإن امتداد ذلك ليطاول ميركل اليوم يبقى مفاجئاً في تطرفه، حيث شتمها البعض لأنها قامت في العام 2010 بتكريم الرسام الدنماركي الراحل كورت ويسترغارد الذي أثار رسمه الكاريكاتوري عن النبي محمد غضب الكثير من المسلمين في أنحاء العالم.


هذه الدائرة من الأحقاد ليست مغلقة بل يتم إدخال عناصر جديدة عليها باستمرار لتغذية دورانها واستمرارها، عبر ضخ دعائي لا يتوقف عند وسائل الإعلام يل يمتد أيضاً للمدارس والمساجد والعائلات وغيرها، بشكل يتفاوت من دولة إلى أخرى، مع الاشتراك في الطبيعة المحافظة للخطاب أولاً، والتركيز على فكرية المظلومية الإسلامية/العربية ثانياً. ويتم تقديم كل ما سبق على أنه جزء من مؤامرة مستمرة عمرها قرون، ضد العروبة وضد الإسلام، ما يستوجب وجود حالة طوارئ، معلنة أو غير معلنة، تبرر الوضع الاقتصادي والاجتماعي المزري للأفراد المستائين في الدول المعنية.

آخر الأسباب التي هوجمت بسببها ميركل هو أنها.. امرأةَ! وكرر مغردون أحاديث للنبي محمد مأخوذة من "صحيح البخاري": "لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة"، هاجم فيه مغردون مغردين آخرين بوصفهم يقعون في الفاحشة أو يرتكبون المعاصي من ناحية تشكيكهم في حديث نبوي. ويحيل ذلك إلى مشكلة جندرية أوسع تتعلق بتعامل الثقافة العربية مع النساء كمواطنات من الدرجة الثانية وكناقصات عقل ودين في أفضل تقدير. وليس من الغريب بالتالي أن تأتي بعض التعليقات الإيجابية بحق ميركل على شاكلة تشبييها بالرجال أو مقارنتها بالرجال، بما في ذلك الحكام العرب، على افتراض مسبق أن الحكم الرشيد والحكمة والحنكة صفات ذكورية من المنطقي أن تتوافر في القادة الأشداء حصراً.


وبالطبع فإن ذلك كله يبدو قاتماً للوهلة الأولى، لكنه يبقى تمثيلاً لأقلية صاخبة في مواقع التواصل على الأقل. والحال أن الغالبية أظهرت إعجاباً بميركل بموازاة وداعها بطريقة رزينة ومتوازنة لا تميل حتى إلى التقديس أو المبالغة. ويظهر ذلك ربما، كيف أن الشعوب العربية تظهر في الواقع استجابة إيجابية للقيم الديموقراطية وتبادل السلطة وميلاً إلى ذلك الأسلوب في الحكم في وجه دكتاتوريات مستبدة دينياً وسياسياً. مع الإشارة أن ذلك الصوت المدني تجلى في ثورات الربيع العربي قبل 10 سنوات، قبل تهميشه للأسف مع صعود تيارات الأسلمة والثورة المضادة على حد سواء في المنطقة.

وهنا، كانت القضية السورية تحديداً حاضرة في وداعيات ميركل، بسبب قراراتها التاريخية بفتح الحدود العام 2015 أمام اللاجئين، ما أسهم في تغيير حياة ملايين البشر نحو الأفضل أولاً، وإعطاء معنى آخر للأمل والقيادة الغربية للعالم ثانياً، بموازاة تغيير المشهد الثقافي في ألمانيا عموماً وبرلين تحديداً بشكل لم تشهدها البلاد منذ ستينيات القرن الماضي، حسب تعبير وكالة "بلومبيرغ" الأميركية، ويحول ذلك برلين بالتحديد إلى عاصمة كوزموبوليتانية تحتفي بالتعدد العرقي في بلد كان قبل عقود فقط يصدّر أفكاراً مروعة كالنازية.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024