فيلم مالك مكتبي

نذير رضا

الثلاثاء 2019/01/01
"يصر مالك مكتبي على أن يبكيني يوم العيد". تقول مغردة، تأثرت، شأنها شأن مئات الآلاف من المشاهدين، إثر عرض جزئين من سلسلة "الدمية" #labambola التي فتح فيها الاعلامي مكتبي ملف عائلة تشتتت عندما قرر الأبوان الانفصال، وحالت الظروف المادية والاجتماعية دون بقاء الاطفال تحت سقف واحد، وتفرقت البنات الثلاث عن شقيقيهما اللذين بقيا في بيروت، فيما توزعت البنات مرة أخرى لدى عائلات أخرى في ايطاليا قبل 24 عاماً. 

لم يفتح مكتبي نقاشاً حول الأثر النفسي لأخطاء الأهل على الأطفال فحسب. فإظهار انعكاس ذلك على الاطفال، هو جزء طبيعي من نقاش يتم تداوله في مختلف البرامج الاجتماعية. لكن مكتبي، قدّم عرضاً استثنائياً، جرياً على عادته، يفرض على المشاهد برنامج سهرته في رأس السنة. يشده بعيداً من سجالات الأمنيات، وآمال الربح بالالعاب الكثيرة، وتفاهات المنجمين. 

في "الدمية"، لم يكتفِ مكتبي بأداء دور الاعلامي الذي يفترض أن يعقد المحاكمات، ولا يصدر الاحكام. تجاوز الأدوار الطبيعية لأي اعلامي، مهما علا شأنه. هنا، هو المحقق، والباحث، والمفاوض، والراوي.. هو جزء من القصة. يدور فيها، وتدور حوله. يتجسد في شخصياتها الاساسية والثانوية، ويخرج منها الى حدود الحياد عندما يصل الامر الى قرارات شخصية، ويدخلها مجدداً كشريك إنساني. 

مالك هنا، هو كل القصة. يسكن تفاصيلها. هو المشاهد وضابط ايقاعاتها. هو الضحية والجلاد. هو الحكم والمفاوض. هو النادم والمحرج والمتخبط بين الاقدام أو الانسحاب. هو ابن العقلية الشرقية، وابن العقلية الغربية، والمقاربتين المختلفتين للعلاقة الاجتماعية و"صلة الرحم". هو المسكون بالحدث والساكن فيه. مالك مكتبي هنا، المحفز على الدمعة، والمحفز على الابتسامة. لا يدّعي القدرة على تخطي المستحيل. واقعي حتى الاحاطة بالممكن. يسعى، ويقوم بما تفترضه نهايات سعيدة، بأعلى التقديرات. لا يوقفه عن المحاولة الا القدر. 

والقدرة على شد المشاهد، لا تأتي من كون القصة مؤثرة فحسب. ولا لأنها معقدة الى درجة تهدد بإنهائها في أي لحظة. ولا لكونه يحترم مشاهده، وانسانيته وضيوفه، ولا يفرض نفسه على الخصوصيات، بقدر ما يقاربها باحترام. شد المشاهد، ينطلق من نمط اعلامي جديد ينفذه. فهو يقدم القصة على طريقة فيلم مشوق، أبطاله من لحم ودم، وخلفياته من دموع وحسرات. تتبادل الشخصيات ادوار البطولة، ويبقى هو الجامع بينها. يعود الى دوره الاعلامي كراوٍ لحيثيات المحاولة، على قاعدة الاطلاع على المستجدات، كما هو حال المحققين المحترفين. 

وإذا كانت قصة حسن وهناء، ظهرت بهذه السلاسة على الشاشة، فإن التفاصيل المحيطة بها اتسمت بالكثير من التعقيد، ما يظهر أن الرجل وفريق اعداده ورئيس التحرير جورج موسى، بذلوا جهدا استثنائياً من عامين، تمهيداً للوصول الى الشخصيات المرتبطة بالقصة – القضية. وهي محاولة يقوم بها للمرة الثانية، عندما وجد الام ديبا في ادغال سيرلنكا قبل عامين. 

يبذل الفريق الكثير من الجهد خارج كادر الكاميرا، ما يفتح الشهية على تخمين الصعوبات دون القدرة على الوصول الى الاطراف المتباعدة والغائبة، بالنظر الى ان المشاهد لم يرها على شكل اتصالات هاتفية، ولا كمساعٍ خلف العدسة للوصول الى ملفات قديمة، لم يبق منها للعرض الا مجموعة صور تقرب القلوب، وعطر أبكى (كارلا) التي ابكت المشاهدين عندما شمّته وقالت انه تتذكره. انه عطر أمها. لتُستتبع بجملة مؤثرة تقولها البنت لوالدها: "اريد ان أسامح نفسي لأني كرهتك.. وأريدك أن تسامح نفسك لأنك أعطيتنا سبباً لكرهك". 

انقسم المشاهدون حول الأم والأب، والأطفال الضحايا. لكنهم لم ينقسموا بشأن مالك مكتبي. وحده حظي بإجماع المشاهدين على احترافيته وانسانيته، ومسعاه لإخراج ليلة رأس السنة من مظاهرها المترفة، وتفاهات منجميها، ومن رائحة الشواء وكؤوس الويسكي. ثمة دمعة مخفية في عيون عائلات لا يستطيع الا مكتبي إخراجها. وتُدرّ معها آلاف الدموع، فرحاً أو غضباً أو تأثراً.

وحده العرض المحترم يستحق كل هذا الثناء. ويستحقه، حكماً مالك مكتبي. وليس هناك أبلغ من تعليق في "تويتر" كتبه زميل اعلامي: "يتبع؟؟؟ مالك مكتبي ناوي يسكر القنوات الباقية وما نحتاج نحضر غير أل بي سي؟"
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024