فيديو البقلاوة.. نشاطية "التريندز"

يارا نحلة

السبت 2020/12/19
انشغلت مواقع التواصل الاجتماعي خلال اليومين الماضيين بفيديو "البقلاوة"، للفنانة اللبنانية ريمي عقل. إذ بدلاً من فيديو يفتح نقاشاً هادفاً وفعالاً حول الرسالة الأساس، أي حق المرأة بالأمن والأمان، نجحت جمعية "أبعاد"، وهي الجهة المنتجة والمروّجة للعمل، في إثارة نقاش حول الفيديو نفسه الذي انقسم إزاءه المتلقون بين مؤيد ومعارض.


"البقلاوة" التي يتكرر الحديث عنها في الفيديو، هي كناية عما تتعرض إليه المرأة من تسليع وتحرش في ظل مجتمع أبوي ينتهك أمانها. ورغم التأييد الواسع لرسالة الفيديو الذي تم إصداره كجزء من حملة #صانعة_أمان، انتقد كثيرون طريقة ايصالها القائمة على الاستعراض والسخاء الإنتاجي مع إهمال المضمون والتباس الأهداف. كما تساءل البعض عن فائدة الفيديو وكيفية خدمته لقضية تحرر النساء وتمكينهن.


بتركيزه على الجانب الإنتاجي، من أزياء باذخة وتسريحات غرائبية وتقنيات تصوير ومونتاج متقدمة، يبدو الفيديو التوعوي أشبه بنمط الإعلانات الترويجية والأغاني المصورة. الا أن هذه الجهود تقابلها ركاكة وسطحية على مستوى الخطاب. فبعد مشاهدته لمرات متعددة أحياناً، يبقى المرء عاجزاً عن تحديد الأهداف التي يروج لها العمل بما يتجاوز رفض التمييز ضد النساء، رسالة واضحة وصريحة لا تحتاج كل هذه التعقيدات الإنتاجية.

أما الخطاب المطروح في الفيديو، عبر جُمل شعرية مشرذمة وغير مترابطة، فتعتريه مغالطات خطيرة، بدءاً من عنوان الحملة "صانعة الأمان". فهل من واجب المرأة أن تصنع الأمان لمجتمع بطريركي يُسرف في إرهابها؟ وأي فلسفة نسوية هذه التي تسعى للحفاظ على أمن المجتمع بدلآً من قلب موازين القوى ضده؟ بالإضافة الى ما يحمله الخطاب من تنميط وقولبة لدور المرأة عبر حصره في خصائص وقيم معينة مثل "العطاء" و"الأمومة"، أي القيم "الأنثوية" نفسها التي يلصقها المجتمع الذكوري بالنساء.

وتنكشف مشكلة جوهرية أخرى في سردية الخوف والخطر التي يركز عليها نص الفيديو. تقول ريمي مثلاً: " تخاف منك ليلاً نهاراً، صباحاً مساءً، مشياً، في شارع الحي ام مدخل البناية، لأنك خطر". ولا طائل هنا من المجادلة بأن هذا الخوف مبالغ فيه أو مفرط في الدرامية، كما رأى بعض المعلقون، لأنه في الحقيقة خوف واقعي ومتناسب مع مستوى الخطورة التي تتعرض اليها النساء في عالمنا. لكن طرح القضية بهذا الشكل المسطح لا يقل خطورة، لأنه يقيم ازدواجية بين قوة الرجل ووحشيته في مواجهة ضعف المرأة ووداعتها.

لا تسهم هذه المعادلة، بأي شكل من الأشكال، في تمكين المرأة، بل تسند إليها دور الضحية فيما تعزز سلوك الاستقواء لدى الرجل. وبالتالي فإن خطاباً من هذا النوع لا يعمل على تمكين المرأة من أجل انتزاع حقوقها الطبيعية، بل يروج لاستجداء هذه الحقوق. ويتجلى ذلك في مخاطبة ريمي للرجل قائلةً: "بدي بس أعطيك تشوفني، تقشعني، تحس، تبادلني...". وفي هذه العبارات أيضاً تعميم لتجربة المرأة ومطالبها التي قد لا تتوافق بتاتاً مع هذا الخطاب.

والحقيقة أن المشكلة لا تكمن في الفيديو بحد ذاته، والذي بُذلت في سبيله جهود تقنية واضحة، وإنما بوظيفته وبالجهة المروجة له. فإن كان هذا الفيديو مجرد عمل فني وإبداعي لشاعرة وفنانة استعراضية، فلها كل الحق في التعبير عن ذاتها وعن منظورها للمرأة والنسوية والأنوثة، كما يحلو لها. لكن حين يكون العمل جزءاً من حملة مناصرة تهدف الى التأثير في عقول المتلقين وتوجهاتهم، فهو إذاً مطالب بطرح خطاب مدروس ومسؤول اجتماعياً، متحرر من المفاهيم الذكورية، وخالٍ من المغالطات.

أخيراً، يدفعنا الفيديو الى طرح تساؤلات كثيرة حول صوابية خيارات منظمات المجتمع المدني في توزيع تمويلاتها على حملات وإنتاجات ترويجية بغية صناعة "تريندات" إعلامية، عوضاً عن صب هذه الجهود في مشاريع لها تأثير مباشر في حيوات النساء. وبات من الممكن الحديث اليوم عن نمط جديد من "النضال" الحقوقي والنسوي، يمكن وصفه بـ"نشاطية التريندز" التي ولدت على أيدي الجمعيات غير الحكومية وبدافع لفت أنظار المسؤولين عن الهِبات وصناديق التمويل أن "أنظروا كم حملاتنا ناجحة وتتم مشاركتها بكثافة في السوشال ميديا!".

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024