هذه البلاد ليست لنا.. وحتماً ليست لأبنائنا

ريما ابراهيم

الإثنين 2020/09/28
سافرت ابنتي منذ أيام. صغيرتي التي لم تكمل 18 عاماً، غادرتنا الى فرنسا لتبدأ دراستها الجامعية. أوصلناها الى المطار حيث كان في انتظارها حشد من رفاق وأصدقاء المدرسة.

كنت أنوي توثيق لحظة الوداع بصورة تذكارية، لكني عجزت عن التقاطها.
حوالى الثلاثين صبية وشاباً تجمعوا أمام مدخل المطار محدثين زحمة سير، لا لأنهم كانوا يقطعون الطريق، وإنما لأن السيارات كانت تتمهل بمحاذاتهم لفهم ما يجري، وبعد أن يتضح ما يجري كانت تتمهل لتأمّل المشهد المهيب.

لم أقوَ على التقاط الصورة، شعرت وكأني أتطفّل عليهم وأنتهك لحظة حزن حميمة، فاكتفيتُ بتأملهم وهم يبكون بحرقة، ويأخذون بعضهم بعضاً بالأحضان، ثنائياً وجماعياً.
كان المشهد غريباً جداً بالنسبة إلى وداع. غابت عنه أمنيات التوفيق والنجاح، وحضرت فيه دموع غزيرة ومشاعر كثيفة وعبارات مثل "ما عم صدق" "لا بليز لا" تُشعر من يشهدها وكأنه في مأتم.

منذ أكثر من سنة بدأنا التحضير لهذه اللحظة. يوم خططنا للسّفر، كانت الفكرة مبهجة ومفرحة وواعدة. لم لا، ونحن نتطلع الى تأمين أفضل فرصة ممكنة لأبنائنا ليتعلموا ويتقنوا مهناً يعتاشون منها مستقبلاً. نحن، ذوي الدخل المحدود، ليس لدينا ما نورثهم إياه، إلا التعليم الذي نؤمّنه لهم. في بالنا أننا نرسلهم الى الخارج لسنوات معدودة، يعودون بعدها حاملين شهادات تسهل عليهم شق طريقهم في الحياة. تلك الخطة تعرضت للخطر، يوم تأزم الوضع مع المصارف، فخفنا ألا نتمكن من تحويل مبالغ من مدخراتنا المسطو عليها، لتأمين نفقات الدراسة والعيش في الخارج. لكن الصلف الذي ردت به المصارف على الأهالي جعلنا نصرّ ألا نقبل أن يملوا علينا شروطهم التعسفية، وألا يأخذوا عنا قرارات مصيرية تتعلق بمستقبل أبنائنا... لم يكن هناك من بديل لمتابعة سيرنا وفق الخطة، وخوض أي معركة يتطلبها تحصيلنا حقنا في الوصول إلى مالنا وإرساله اليهم.

حتى هذه المرحلة لم يكن الحزن قد تسلل الى نفوسنا التي ملأتها مشاعر الغضب والتحدي. فكلما تدهور الوضع وتعقّد، ازددنا إصراراً.. إلى أن وقع انفجار 4 آب، وأحاط بنا الموت من كل جانب.
الناس ماتوا في بيوتهم، في ملاذاتهم التي ظنوها آمنة!
المعارضون منهم والموالون، المعنيون بما يجري من أحداث وغير المعنيين، كلهم سيّان. عبثية الموت لم تفرق بينهم. حصدت أرواحهم بكل استهزاء، بكل خفة، بكل عناد. هكذا نموت في الوطن بكل بساطة!
على ماذا نراهن؟ ماذا ننتظر؟ أشهر قضيناها في الشوارع نصرخ بعلو الصوت، وما من مجيب...

الرهانات كلها أصبحت مقامرة، واحتمالات الربح فيها توازي العدم، وبصيص النور في آخر النفق أوشك على الانطفاء. هذه البلاد ليست لنا، نحن أيتامها. نحن، المطرودين منها روحياً ونفسياً الى أصقاع الأرض، قبل أن نُطرد جسدياً، نحن الهائمين بأحلامنا بحثاً عن انتماء لم ولن نجده فيها، نحن الذين نحمل حبها وبغضها وشوقنا إليها وغضبنا منها، كالشوك في قلوبنا... هذه البلاد ليست لنا وهي حتماً ليست لأبنائنا. ليس من حقنا أن نتركهم يعيشون ما عشناه، يجربون ما جربناه، يضيّعون في الأوهام عمراً ضيعناه.
لم تعد مغادرة البلد خياراً، أصبحت واجباً.
لأجل هذا كله كان المشهد في المطار يشبه المأتم.

اليوم لا نرسل أبناءنا ليتعلموا ويعودوا، نحن نرسلهم لينتموا الى أوطان أخرى، تحتضنهم وتحميهم وتحترمهم وتتيح لهم كل الفرص التي حرموا منها هنا. نودّعهم ولا نتجرأ أن نقول لهم ألا ينظروا خلفهم، وأن يمضوا في درب يشقونه وحدهم بعيداً من دروبنا. نودّعهم ونعض على جرحنا، علّ إطلاقنا سراحهم من سجن حبنا يكفّر عن ذنب إنجابهم في بلد نهشته كل العلل، وظللنا نراهن دهراً على قيامته.
نلدهم، حين نتخلى عنهم، ولادة ثانية.
لكن خلاصهم الفردي لا يواسينا، ولا يخفف مصابنا باحتضار الوطن.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024