طوباوية القضاء يهشمها وزير الداخلية: 95% من القضاة فاسدون؟!

نذير رضا

الجمعة 2020/11/27
لم يكن رد الإعلامي مارسيل غانم، على تغريدة إحدى القضاة التي تهاجمه فيها، وتهاجم وزير الداخلية في حكومة تصريف الأعمال محمد فهمي وتصفه فيها بـ"الغباء"، الا استجابة سريعة وملحة لوضع بعض القضاة اللبنانيين عند حدودهم للنظر الى اللبنانيين من مستوى أرضي، والتوقف عن التحليق في الطوباوية، والنظر الى اللبنانيين من موقع مرتفع.
 
فخطاب الطوباوية القائم، استحق هذا الرد الذي قال فيه غانم بنبرة تحدي: "ما بتخوفينا"، و"خلص الزمن" الذي تهددون فيه الآخرين. واستطاع غانم ان يحشد المؤيدين لخطابه، أولئك الذين يدركون أن قسماً من القضاة دخل الى السلك بوساطة سياسية أو بوراثة قضائية، وأن بعضهم يتلقى اتصالات من سياسيين ونافذين، لتغيير مسارات الأحكام، ويتنحى بعضهم عن تلك القضايا عندما يتعرضون للضغوط. 

لم يأتِ وزير الداخلية بجديد حين قال ان هناك فساداً وضغوطاً سياسية وإذعاناً لسياسيين بين القضاة. فالرئيس اللبناني ميشال عون، منذ وصوله الى الحكم، اجتمع بمجلس القضاء الاعلى ودعاه للتحرر من الضغوط السياسية، ووضع نفسه مرجعاً لحماية استقلاليتهم. 

لكن خطأ فهمي أنه كاد أن يعمم بالقول ان 95% من القضاة فاسدون. وهو رقم كبير، قياساً بمهام الجسم القضائي وانتشاره، وهو ينطوي على مبالغة، لكنه في الوقت نفسه يعبّر عن واقع لا يتجاهله أحد، حتى من ضمن القضاة الذين اعترضوا واستنكروا. 

وأسباب الاستنكار والهجوم على غانم ووزير الداخلية، تعود الى صورة طوباوية يكرسها القاضي عن نفسه، تتصل بالحديث عن النزاهة والاستقلالية. وهما شعاران لطالما رفعهما القضاء، ويفترض أن يكون القضاة ملتزمين بهما لولا أن النظام اللبناني هشّم هذه الصورة، مرة بالتدخلات، ومرة أخرى بالتوظيفات السياسية، ومرة ثلاثة بالتعيينات في المواقع المهمة. وما رفض توقيع التعيينات القضائية التي اقترحها مجلس القضاء الاعلى، إلا تأكيد على أن القضاء غير معزول وغير مستقل عن السياسة. 

الأمر الثاني أن القضاة الذين يعرفون بأن فساداً سياسياً يؤثر فيهم وينخرهم، من شأن الإعلان عن هذا الواقع أن يعمق تهشيم صورتهم، خصوصاً في هذه المرحلة، حيث يعول اللبنانيون على القضاء المستقل والنزيه والجريء بغية اعادة الحقوق الى اصحابها، ومحاسبة فساد الدولة، وهو مطلب دولي جامع. وعليه، فإن اعلان هذا الجانب من قبل مسؤولين، سيشكك في نزاهة القضاء واستقلاليته، وبالتالي سيمنعه من أن يكون وجهة دولية للإصلاح ومكافحة الفساد وإعادة الأموال المنهوبة. 

أثار تصريح فهمي، وهو بلا شك ينطوي على مبالغة، الكثير من الجدل والاستنكار. قد يكون هناك قضاة فاسدون أو مرتبطون بأجندات سياسية، أو يلتزمون الأعراف اللبنانية المرتبطة بالمحاصصة المذهبية.. وهناك ضغوط تمارس على القضاة، لكن بعضهم تنحى عن كثير من القضايا حين مورست الضغوط عليهم. وبعضهم الآخر بقي دون الترقية، بسبب المحاصصات، وبعضهم مظلوم في مختلف المواقع. 

والمظلومية، تعود الى ان الاستقلالية والحياد والنزاهة يرتبط وجودها بالكفاية المالية، وبالزهد في المناصب، وبوجود آليات تعيين مستقلة لا طائفية ولا سياسية، وهي شروط غير متوافرة في لبنان بسبب طبيعة النظام، وآليات الحكم المستمرة منذ نشوء الكيان، والتي تكرست خلال فترة الوجود السوري في لبنان، وتعمقت بعد جلائه. 

كان على القضاة أن يصوبوا ويوضحوا ويزيلوا الالتباس. كان عليهم ترميم صورتهم. كان عليهم التأكيد بأن القضاء ليس سلطة، بل جسم يمتثل للقانون ويلتزم بها ولا يهدد بسلطته. كان عليهم الكشف عن مواقع الخلل، والثغرات توازياً مع الدفاع عن كثيرين مظلومين منهم. لكن الهجوم والطوباوية، خطاب غير واقعي، يشبه مبالغة وزير الداخلية في حُكمه. 

وبعد تصريح وزير الداخلية، أوضح مجلس القضاء الاعلى في بيان ان "ما صدر في حق القضاء والقضاة غير مقبول وغير مسموح به بتاتا وغير صحيح لا سيما ممن يفترض به العمل على بناء الدولة والمؤسسات، علما ان القضاء يقوم بجزء كبير من المهام الملقاة على عاتقه في ظروف اكثر من صعبة وينتظر مؤازرة من السلطات والمؤسسات كافة". 

بدوره، رد نادي قضاة لبنان على فهمي في بيان جاء فيه: "يطيب لوزير 'القتيلين'، المقصر في حماية قصور العدل وحراستها ما سمح بإدخال قنبلتين إلى قصر عدل بيروت وفرار المساجين من نظارة قصر عدل بعبدا، صاحب القرارات المرتجلة، منكراً دور المحامين في تسيير مرفق العدالة، التطاول المستمر على السلطة القضائية".
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024