رحلة البحث عن "واسطة"

نذير رضا

الإثنين 2018/01/08
ردة الفعل الالكترونية التي تلت تسريب أسماء أربعة من أبناء المسؤولين، فازوا بوظيفة حكومية، لم تثر حنقي على "سيستم" المحاصصة في البلد. فقد استسلمت منذ ست سنوات للنظام القائم، ولو أنني عجزت عن أن أكون جزءاً منه. وأحبطت، ولم أتخذ أي خطوة للتغيير.
وعوضاً عن مشاركة الناشطين "المتحمسين" غضبهم، وجدت بينهم فئتين من الشباب: أولهم يبني الاوهام على بلد فُقِد قسم كبير من الامل فيه، والثاني مصدوم، كما كنت قبل ست سنوات. 

وانعدام الانفعال جراء "حدث جلل"، كما يظنّ شباب في مقتبل العمر، يعود إلى اختبار تجربتيّ "ذل" عشتهما قبل سنوات. أولهما "ذل الانتظار" ريثما يعود التيار الكهربائي بعد ساعات التقنين المعتادة لنقل أغراض المنزل بالمصعد إلى الطابق السابع في مبنى أقطنه. وثانيهما، "ذل الانتظار" في مكاتب وزيرين، ومسؤول بارز ثالث، لسؤالهم "واسطة" تنقذني من حجم "النق" فوق رأسي في المنزل، بعدما وجدت زوجتي نفسها فجأة بلا عمل، إثر قرار اتخذه مسؤولها المباشر في جامعة خاصة (من أهم جامعات لبنان) كانت تعمل فيها، بعدم تجديد عقد عملها. والمفارقة، أن عقد عملها، كان واحداً من سبعة عقود أحجم المسؤول عن تجديدها في ربيع العام 2011، وينتمي السبعة الى لون مذهبيّ واحد!

تحت الضغط (العائلي طبعاً)، التقيت بسياسي صديق أشكو له واقع الحال. كان تناهى أن ثلاثة من ابناء المسؤولين كسبوا وظائف "معتبرة" قبل عام. سألتُ الصديق: "بدلاً من توظيف أبنائهم واقربائهم، لماذا لا يوظفون من هم بحاجة إلى الوظيفة؟" كان رده صاعقاً، لكنه واقعي. أجاب: "وهل أنت متوهم بأنهم سيفضلون أي شخص على أولادهم؟ هذا هو واقع البلد"! 

أعادتني عبارة صديقي السياسي إلى رشدي "الاستسلاميّ". دفعتني لأكون واقعياً. "هو محقّ". كنت أكرّر ايماءات الموافقة كلما استرجعتُ عبارته. كان لزاماً، تحت الضغط (أكرر)، أن أبدأ رحلة البحث عن "واسطة". 

كنتُ عرضة لمفهومين لا يلتقيان، كرسهما واقع البلد من جهة، وتراكم المفهوم الاجتماعي القائم على الوساطة من جهة أخرى. المفهومان يتصارعان. أولهما يتمثل في أن "لا امكانية للحصول على وظيفة بلا وساطة"، وبلا "ذل" طبعاً، وقد كان ذلك واضحاً منذ اليوم الاول. وثانيهما، مفهوم "الانبطاح الضروري" الذي يعبّر عنه أفراد المجتمع الطامعين بوظيفة، بعبارة: "بدك تنام على بطنك وعلى ظهرك أمام بيت المسؤول لتوصل للوظيفة"! و"بدك تتابع حتى يزهق منك"! 

وأنا، لا حول لي ولا قوة، ولا ظهر سياسياً موزوناً يمكن أن ينهي ورطتي. وقد وجدتُ نفسي مجبراً على الانصياع للمفهومين، رغم تقديري بأني سأختبر ذلاً لم أضطر له في السابق. وقد ألتقي مسؤولاً من النوع الذي يسميه مجربوه باسم "النائب تكرم"، في اشارة إلى أنه لا يصد شخصاً ويقول لناخبيه على الدوام عند سؤاله طلباً "تكرم". وقد ألتقي مسؤولاً يقول "انتظر مجلس الخدمة المدنية"، وأنا على يقين أن المجلس سيطلب موظفين في "مباراة محصورة" يفوز فيها من تم التعاقد معهم في السابق بالوساطة، وقد تحقق ذلك بالفعل بعد ثلاث سنوات حين طلبت إحدى الادارات الحكومية عشرات الموظفين في مباراة محصورة. 

الخيارات محدودة. فاختصاص زوجتي علميّ بحت، كذلك تجربتها البحثية. وضعنا القائمة سوياً، وكان الخيار "المهين" الاول في وزارة لبنانية. تعاطى مستشار الوزير بفوقية غريبة. وربط تحقيق الأمر بـ"بس يصير في فرصة". لكنه أخذ نسخة عن السيرة الذاتية، وأنا على يقين أنه رماها بعد خروجنا من المكتب. 
التجربة الثانية كانت في مكتب وزير (بات سابقاً الآن). بعد انتظار لنحو ساعة ونصف رغم الوصول على الموعد المحدد، استقبلنا وقال "تفضلوا". تحدثت زوجتي عن مطلبها، فاعتذر بعد نصف دقيقة، وخرج من مكتبه بعد رمي فنجان قهوة (كرتون) في سلة المهملات ورائه، قائلاً: "عندي اجتماع"! 

كان هذا التصرف "المهين" دافعاً قوياً للاحجام عن أي طلب مشابه بالنسبة لي. "كرامتي فوق كل اعتبار"، هي ردة الفعل المباشرة على أي طلب من قبل زوجتي للمؤازرة في رحلة البحث عن الواسطة. أنا استسلمت، أقر بذلك، وانهزمت عن سابق تصور وتصميم، وهي لم تستلم منذ ست سنوات، لكنها تخوض معاركها، حتى الآن، وحيدة. وتبرر بالقول: "بدنا نسعى.. هيدا البلد... بس انت مزوّدها"!

حال زوجتي، تشبه أحوال مئات المصدومين من حصول أربعة، على الأقل، من أولاد النافذين على وظيفة حكومية مدنية في مديرية أمن الدولة أخيراً، وتسربت اسماؤهم للعلن. وحده الشاب محمد فضل الله، نجل النائب حسن فضل الله، اعتذر، تحت ضغط الحملات، عن الوظفية.

لكن محمد، لا يمثل إلا حالة نادرة من أحوال ابناء النافذين الذين يعتبرون أن الحملة ستهدأ بعد ايام قليلة، وهذه فرصتهم من المحاصصة، مثلما يعتبر الآخرون، غير المدعومين، أن عليهم الاذعان لابعادهم عن وظائف تقتصر على "حماة السيستم".. وهذا هو البلد!
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024