الآخرون الأعداء

قاسم مرواني

الثلاثاء 2021/02/02
كنا نشعر بأننا من النوع الذي لا يقهر، وبأن العالم كله يتآمر علينا ليغير نمط حياتنا ويشكّله بالطريقة التي تناسبه. شركات الأدوية، السياسيون، المصارف... أمام ذلك كله، كان علينا أن نقاوم: ما هو فيروس كورونا؟ مجرد رشح عادي، إنفلونزا تعالجها بالفيتامين "سي" وبعض الحساء الساخن. حتى أن بعضنا ذهب أبعد، فاعتبرها مجرد كذبة!

أذكر أنني زرت صيدلية، خريف العام الماضي، وكانت قد عُلّقت على بابها ملاحظة "ممنوع الدخول بلا كمامة". طلبتُ فيتامين "سي". أجابني الصيدلي: "لا يوجد". سألته عن وسائل الوقاية من "كورونا"، فأجاب: "لا يوجد كورونا، إنه كذبة". كان الموقف سوريالياً.

قاومنا كل قرارات الإغلاق السابقة، ولم نوفر طريقة في سبيل ذلك. أغلقت المطاعم والمقاهي أبوابها، فنقلنا سهراتنا إلى المنازل. احتفلنا بأعياد الميلاد، سهرة رأس السنة، واجتمعنا مع الأصدقاء والأقارب. لماذا علينا أن نخاف، نحن الشباب، من فيروس لا يقتل سوى كبار السن والمرضى؟

ثم حل الشتاء. كان هناك ذلك التقليد القديم بأن نجلس بالقرب من الموقد، نستعيد أخبار أيام مضت ونرسم ملامح المقبل منها. مثلنا مثل كل اللبنانيين، نضع حياتنا الاجتماعية في أعلى سلم أولوياتنا. يكفي أن يجتمع بضعة أشخاص حول نارجيلة حتى يعتبروا أنهم قضوا وقتاً ممتعاً. لطالما كنا اجتماعيين جداً، نعيش على مبدأ أن الجنة بلا ناس لا تُداس. الآن كل شيء تغير، ربما إلى الأبد.

مضت أسابيع على احتباسنا في المنازل، ليس التزاماً بقوانين الدولة التي تقضي بمنع التجول والتقيد بالحجر، بل بسبب ما يصلنا من أخبار عن أناس نعرفهم جيداً ونعرف أنهم يلتزمون أقصى درجات الوقاية والحذر في ما يخص صحتهم، ومع ذلك أصيبوا بفيروس كورونا.

لم تعد الإصابة مقتصرة على شخص أو اثنين. بل، كما أخبرني صديق يعمل في مستشفى، عائلات بكاملها تصاب بالفيروس دفعة واحدة. بمجرد أن يصاب شخص واحد، حتى ينقل الفيروس إلى الجميع. بدأنا نتحاشى بعضنا بعضاً، حتى داخل المنازل، كل شخص يخرج من المنزل لشراء غرض ما، يصبح مشكوكاً في أمره.

نسبة الوفيات العالية حولت جدران مواقع التواصل الاجتماعي إلى أوراق نعي، بين الفينة والأخرى ينشر أحد الأصدقاء خبر وفاة قريب أو صديق أو أحد المعارف. كان السؤال المتكرر منذ أشهر هو: "هل تعرف شخصياً مريضاً بفيروس كورونا؟"، لتكون الإجابة في معظم الأحيان "لا". اليوم، لدى كل منا مريض توفي بسبب الفيروس، أو يخضع للعلاج على أمل الشفاء. لم تعد الوفيات تقتصر على كبار السن والمرضى، بل بدأنا نسمع بمرضى شبان كانوا يتمتعون بصحة جيدة، ومع ذلك لم يوفرهم المرض.

أجلس قرب النافذة أراقب الشارع. تتزايد حركة السيارات. هذا دليل على أن الناس بدأوا يملّون الحجر. أنظر إلى الناس وأرى فيهم فيروسات متنقلة، كل شخص منهم هو عدو قد يتسبب في قتلي أو قتل شخص قريب مني. أمر مرعب أن يتخيل المرء نفسه مريضاً، سواء بكورونا أو أي مرض آخر، ويجد نفسه مرمياً أمام المستشفى، يعجز عن إيجاد سرير له بعدما تخطت المستشفيات كلها حدودها الاستيعابية القصوى. أي رعب أن يتمنى الإنسان موت إنسان آخر، ليس ليحتل مكانه في سلّم الطبقات الاجتماعية أو الوظيفية، بل كي يحتل مكانه في سرير المستشفى؟

خلال استراحات العمل المنزلي، أهرب لمشاهدة الأفلام. حتى مشهد الناس يتصافحون ويتبادلون القُبل في الشاشة بات غريباً، كأنهم يعيشون في زمن آخر، كوكب آخر. أفكر أن مؤامرة العالم علينا لتغيير نمط حياتنا، نجحت تماماً، فأصبح كل شخص نعرفه عدواً لنا، تقتصر علاقتنا به على الاتصالات الهاتفية ومواقع التواصل. وعلى عكس فترات الحجر السابقة، هذه المرة، لا وجود للملل. كأننا اعتدنا حياتنا في المنزل. كأنها أصبحت الحياة الوحيدة الموجودة، وكل ما عداها بات غريباً علينا.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024