دولة المحميات.. والأوهام

نذير رضا

الإثنين 2020/12/14
من الصعب الجزم بأن تفعيل المحاسبة في لبنان، أمر متاح في الوقت الحاضر، وفي المستقبل القريب، طالما أن المحميات الطائفية في لبنان قائمة، وجمهورها قادر على الموت فداء لها.

فكل الاختبارات اللبنانية للحكم الذاتي والاصلاح الذاتي في وقت سابق، فشلت إثر اصطدامها بالصيغة، تلك التي كرست المحميات للطوائف وممثليها في السلطة، سواء للشخصيات أو للمواقع..

وما السجال السياسي القائم الذي انزلق الى الطابع المذهبي بين المسلمين السنّة والمسيحيين، على خلفية ادعاء المحقق العدلي في ملف انفجار مرفأ بيروت القاضي فادي صوان، على رئيس حكومة تصريف الاعمال حسان دياب بتهمة التقصير والتقاعس، سوى دليل إضافي على أن المحاسبة في لبنان التشاركي، لا تقوم بالانتقاء او بالاستنسابية. وهي، كما الحكم والانتفاع والفساد، محكومة بالتوازن وبقاعدة الحكم الذهبية المستمرة منذ 30 عاماً: "ستة وستة مكرر".


ما كان ادعاء صوان ليثير الجدل لو لم يبدُ انتقائياً بالمعنى الطائفي والسياسي. فرسالته الى البرلمان قبل أسبوعين، تضمنت 14 شخصية، ومن ضمنهم وزراء العدل السابقون المحسوبون على "التيار الوطني الحر". وما كانت لتثير الانقسام لو تضمنت كل الشخصيات الموجودة في الحكم أو التي شغلته في السابق، ويُشتبه في أنها كانت على دراية بوجود نيترات الامونيوم في المرفأ منذ 7 سنوات، ومن ضمنها رئيس حالي للجمهورية ورئيس سابق لها، وأربعة رؤساء حكومات ووزراء سابقون ولاحقون.

وما كانت الحساسيات الطائفية لتتصاعد الى حدود نهش الحلول المتوقفة على توافق سياسي حول الحكومة العتيدة، لو أن مسار التعامل السياسي مع الملفات خلا، منذ 15 عاماً على الاقل، من الحسابات الطائفية.

فيصعب انتقاد رؤساء الحكومات السابقين اليوم، بسبب دفاعهم عن "موقع الرئاسة"، طالما أن رئاسة الجمهورية حشدت المواد القانونية، الى جانب القوى السياسية المسيحية وجمهورها، للدفاع عن مقامها.. ولا يمكن انتقاد دار الفتوى بسبب حماية دياب، طالما أن بكركي وفرت الحماية لموقع رئاسة الجمهورية في وقت سابق، منذ أيام الرئيس الأسبق إميل لحود في العام 2005، والآن لموقع حاكمية مصرف لبنان. وهذا ما يعبّر عنه اللبنانيون بالأشكال كافة في مساحات الرأي التي توفرها مواقع التواصل الاجتماعي.

فالبلاد قائمة على المحميات الطائفية، ولم تصطدم القوى السياسية بشكل عنيف، إلا لدى المساس بالمواقع المحسوبة على الطوائف، او الاقتراب من شاغليها بطريقة انتقائية بالمعنى الطائفي، ولدى ما يصفونه بـ"التعدي على الصلاحيات".

ذلك ان السيستم اللبناني، منذ ترميمه في العام 1989، وتثبيته المحميات في العام 2008، يسير وفق قاعدة ثابتة: الحكم تشاركي، ما يعني أن المنفعة مشتركة، والخسارة مشتركة، والفضيحة في الاعلام مشتركة، والفساد والإصلاح يقومان بطريقة مشتركة ويتم تقاسمهما بالعدل، وفق قاعدة المناصفة. المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، التي تشمل كل جوانب العمل السياسي والفضائحي في لبنان، حتى بالمحاسبة في القضاء، لأن الجرم يُرتكب بطريقة مشتركة، كذلك النتائج التي تترتب عليه يجب أن تشمل الجميع.

هذا الواقع اللبناني يفهمه الجميع، وما الاستنفارات السياسية من زاوية طائفية، سوى تكريس لهذا العُرف الذي اصطلح على تسميته بالـ"ميثاقي". أما على الضفة الشعبية، فالأمر مختلف. ثمة الكثير من الأحلام والأوهام. غالباً ما تصدر عن سورياليين وحالمين بإصلاح يراعي منطق المؤسسات، وهو لا وجود له إلا في مواقع التواصل الاجتماعي، وفي مزاودات البرامج التلفزيونية ومقدمات نشرات الأخبار. وبعضها، يزاود من خلفية طائفية، حين تطاول الخصم السياسي.

هذا الواقع، تقابله مطالبة غالبية اللبنانيين بتحقيق قضائي، فاعل وجدّي، وعدم تجهيل الفاعل، وعدم إدخال الملف في الزواريب الطائفية الضيقة. فلم يُرصَد اعتراض على الادعاءات الراهنة، بقدر ما رُصدت مطالبة بتوسيع التحقيق والادعاءات والاستدعاءات لتشمل المسؤولين من أعلى الهرم الى أسفله.. وهذا أقل الممكن بعد انتفاء إمكانية تحقيق دولي، وهو ما تفهّمه الخارج، وتوصل الى تسوية مع الداخل قضت بـ"المشاركة في التحقيق"، الأمر الذي أثمر مشاركة أميركية وفرنسية وغيرها.

على أن أحلام اللبنانيين، لا تستقيم في واقع بلد مثل لبنان بات موضوعاً أمام خيارين في ملف مكافحة الفساد، إما الانفجار الأمني على خلفية طائفية، وإما التسوية القائمة على قاعدة "عفا الله عما مضى"، تماماً مثل تسوية اتفاق الطائف والعفو العام عن جرائم الحرب. ودون ذلك، تراشق لا تغير مساره أوهام الرومانسيين الثوريين، والحالمين بإصلاح ما أفسده الدهر.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024