نيكي ميناج وحقيقة الإصلاح في السعودية

وليد بركسية

الأربعاء 2019/07/10
بغض النظر إن كان البيان الذي قدمته نجمة الراب العالمية نيكي ميناج، حول أسباب إلغاء حفلتها التي كانت مقررة في مدينة جدة السعودية، الأسبوع المقبل، صحيحاً تماماً، أم أنه يخفي جوانب لم يتم الإفصاح عنها، إلا أن الجدل الذي أحدثته المغنية البالغة من العمر 36 عاماً والشهيرة بأداءاتها المثيرة، يكشف مدى الانقسام في المجتمع السعودي تجاه الإصلاحات الاجتماعية في البلاد من جهة، ومدى هشاشة تلك الإصلاحات وتناقضها مع أساسيات الإصلاح نفسه من جهة ثانية.


ولعل الإحساس بوجود النفاق هو ما يغمر مشهد الإصلاحات السعودية بالكامل، ولا يأتي ذلك فقط من تناقض القرارات السعودية وقصورها على إصلاحات محدودة، كالسماح للنساء بقيادة السيارات مثلاً، في مقابل الإبقاء عل قوانين الوصاية الذكورية واعتقال الناشطات السعوديات أو قتل الصحافي جمال خاشقجي، بل يمتد ذلك إلى الفنانين العالميين والعرب الذين روجوا بأعمالهم الفنية لتلك الرؤية وأقاموا حفلات متخلين عن القيم التي يحدثون عنها عموماً كحقوق النساء والأقليات وغيرها.

وقالت ميناج، في بيان أرسلته إلى وكالة "أسوشييتد برس"، إنه: "بعد تفكير عميق قررت عدم المضي قدماً بالحفلة المزمع عقدها في فعاليات جدة العالمية.. في الوقت الذي كل ما أريده هو تقديم عرضي أمام المعجبين في المملكة العربية السعودية، وبعد تثقيف نفسي أكثر حول بعض المسائل، أؤمن أنه من المهم بالنسبة لي إيضاح دعمي لحقوق النساء ومجتمع المثليين ومتحولي الجنس وحرية التعبير".

وربما لا تبتعد ميناج نفسها، رغم بيانها المتحدي لسردية الإصلاح السعودي، عن ذلك النفاق. والسؤال البارز هنا يتعلق بسبب موافقتها أصلاً على إقامة حفل في السعودية، قبل التراجع عنه. وهي ،رغم ادعائها بأنها لم تكن تعلم بالقيود الموجودة في المملكة، والقيود المطلوبة منها على صعيد الأداء والملابس، إلا أن ذلك لا يبدو مقنعاً. وانطلاقاً من فرضية أنه لا أحد على الكوكب لا يدرك مدى القيود السعودية على النساء تحديداً، فإن ميناج كانت تتجاهل تلك وجود تلك القيود التي ترتقي لمرتبة الانتهاكات، من أجل إقامة حفلة سخية. أما التراجع بالصورة التي تم تقديمها، فقد يكون مبرراً للخروج من أزمة سببتها المغنية للسعوديين أنفسهم.

ومَن يتتبع تغريدات السعوديين في "تويتر" حول الموضوع، بالإضافة للبيانات الرسمية التي نشرتها صحف محلية مقربة من السلطة، يُراد له أن يقتنع بأن إلغاء الحفلة أتى من طرف السعودية بسبب تعارض قيم ميناج مع قيم المملكة المحافظة. وبالتالي يصبح بيان ميناج الذي تحدثت فيه عن المثليين وحرية التعبير وحقوق النساء، مخرجاً مثالياً لإنهاء الأزمة بأقل قدر ممكن من الضرر، وحرف استياء المحافظين السعوديين نحو ميناج، بوصفها "عاهرة" بحسب التعبير المتداول في "تويتر"، بدلاً من صبه على العائلة السعودية الحاكمة وخطط الإصلاح التي رغم "جرأتها" تبقى محافظة على حد معين من "القيم العائلية والدينية".

بالتالي قد يكون مستوى الغضب غير المسبوق في "تويتر" تجاه استضافة ميناج في المملكة، هو السبب وراء التراجع عن الحفلة، علماً أن تصدر الأصوات المتشددة دينياً في "تويتر"، في مناسبة كل قرار أو حدث سعودي، بات أمراً روتينياً، بشكل يعكس الصراع الحالي في البلاد بين الإصلاحات التي يريدها الأمير محمد بن سلمان وبين الأوساط الدينية والاجتماعية المحافظة، التي تعتبر طرفاً متضرراً من تلك الإصلاحات، خصوصاً أن السلطات قامت في وقت سابق بتقليص نفوذ الشرطة الدينية ورجال الدين في البلاد، وجردت "هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" من سلطة اعتقال الأفراد، ما يعني أن طبقة رجال الدين المتشددين الذين شكلوا أساس حكم العائلة السعودية المالكة، باتت تفقد مكاسبها من تلك العلاقة، وهي تعمل على الضغط على السلطات من خلال خلق جو معارض في المجتمع السعودي.

يبرز ذلك في "تويتر" بوضوح. انتشرت باللغتين العربية والانجليزية، تغريدات تقارن بين ميناج، والنجمة العالمية مارايا كيري التي قدمت حفلاً "محتشماً" في السعودية في شباط/فبراير الماضي، رافضة الاستماع لكافة الدعوات الحقوقية التي وجهت إليها بإلغاء حفلتها في المملكة التي تتعدد فيها انتهاكات حقوق الإنسان، من العداء للنساء والمثليين إلى نسب الإعدام المرتفعة، أو حتى توجيه رسالة من المسرح للمعتقلات السعوديات اللواتي طالبن بحقوق النساء، وهو ما تروج كيري له بنفسها.

وعبر المقارنة التي قد يكون الذباب الإلكتروني غذّاها في البداية، يتم تصوير كيري بأنها فنانة راقية تحترم الاختلاف والثقافة المحلية، بينما توصف ميناج بأقذع الأوصاف. ويصبح دعم الإصلاح هنا مشروطاً باحترام العقلية المحلية المحافظة: فكيري، بحسب التعليقات، دعمت نساء السعودية لأنها غنت أمامهن وفق شروط السعودية، أما ميناج فباتت رمزاً للانغلاق لأنها رفضت الاحتشام وفضلت "قيم الانحلال الأميركية"، مع الإشارة إلى أن الاستياء قي "تويتر" من استضافة كيري "الفاضلة"، مطلع العام، لا يقارب الاستياء الذي تم التعبير عنه تجاه استضافة ميناج "الفاجرة"، بسبب اختلاف مفترض في نوعية الفن الذي تقدمه النجمتان!

هذا الجدل البيزنطي، يتكرر في الخطاب السلطوي في أنحاء الشرق الأوسط، ويتم الحديث فيه عن الخصوصية المحلية والتشدد الديني كسبب للقوانين الرجعية وانتهاكات حقوق الإنسان والقيود الاجتماعية، والتي تشكل جزءاً من منظومة أشمل للحكم الدكتاتوري. وبالطبع ينقسم ذلك الخطاب إلى قسمين، الأول، موجه للمجتمع المحلي المحافظ الراغب في الإبقاء على درجة معينة من المظاهر الدينية في الحياة اليومية. والثاني، بات جزءاً من الخطاب الدبلوماسي الموجه للعالم، وتعزز مع ارتفاع الخطاب الشعبوي والنزعات القومية الجديدة التي تغذيها عالمياً شخصيات مثل الزعيم الروسي فلاديمير بوتين، في وقت تتراجع فيه القيم الليبرالية وأهمية حقوق الإنسان تدريجياً.

وعليه، قد يكون بيان ميناج جزءاً من تسوية وحملة علاقات عامة، لتخرج الأطراف كافة بأقل الأضرار. فميناج باتت، في الإعلام العالمي، رمزاً للحرية والدفاع عن حقوق الإنسان، بينما لم تخسر شيئاً من إغضاب المجتمع السعودي المحلي. أما السلطات السعودية فظهرت بثوب المدافع عن القيم المحلية ضد "الانحلال الغربي" من دون أن يؤثر ذلك في صورتها العالمية، لأنه بات واضحاً، منذ جريمة اغتيال خاشقجي في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، أنها تحظى بغطاء سياسي من الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي شكل وصوله للبيت الأبيض ذروة الخطاب الشعبوي في العالم عموماً.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024