حزنٌ في العدلية.. القضاء وما ملكت أيمانُكم!

نذير رضا

الإثنين 2021/04/19
كل المأثورات عن هيبة الدولة وتماسكها، تسقط في مشهد الإشكال الذي نقلته الشاشات مباشرة من أمام العدلية، اليوم الاثنين، أثناء انقسام الشارع تأييداً لأحد قاضيين اختلفا على "ملاحقة الفساد" و"التمرّد على التعليمات الإدارية". 

احتكّ مناصرو القاضيَين، مدعي عام التمييز غسان عويدات، ومدعي عام جبل لبنان غادة عون، أمام قصر العدل، ما أسفر عن وقوع جرحى.. وفصلت القوى الأمنية بين جمهورين، أحدهما يؤيد موظفاً، والثاني يؤيد موظفاً آخر.  

والمشهد المستجد في لبنان، لم تعرفه البلاد في السابق على المستوى الشعبي. كان الأمر يقتصر على المستوى السياسي، تأييداً لموظف، أو قتالاً للحفاظ عليه. بات للقضاة الآن جمهورهم، يتظاهر دفاعاً عنهم، ويطلق الهتافات ويقسم بحياة القاضي.

والجمهور هنا، بالتأكيد لم يكن على دراية بالقاضي الذي يؤيده. كثيرون من مغردي مواقع التواصل لا يعرفون من هو القاضي عويدات، ولا يدركون صلاحياته.. كذلك لا يعرف كثيرون مَن تكون القاضية غادة عون، ومَن تهاجم، وما هي حدود صلاحياتها الإدارية. فالناس هنا ليسوا أكثر من صدى لإشارة سياسية وجّهتهم نحو الهدف، استخدمتهم في معاركها السياسية الداخلية، ودفاعاً عن مصالحها، وهي جزء من استراتيجية وضعتها القوى السياسية قبل سنوات قليلة، تقضي بأن تخوض القوى الشعبية معارك بالنيابة عن القوى السياسية، منعاً للإحراج.
 

أما القاضي، فلطالما احتفظ بهالة طوال السنوات الماضية. صاحب النفوذ و"المقام العالي"، بقي منزّهاً عن انقسامات الناس. فهو المفوض حلّ مشاكلهم والجمع بينهم وإحقاق الحق لأجلهم. وهو الأكبر من الخلافات والانقسامات، وأكبر من التبعية السياسية لأي طرف. وأكبر من أن يُحسب على أي طرف، أو تُخاض المعارك الشعبية والسياسية لابقائه في موقعه، أو للدفاع عن صلاحياته. 

شكلت الدولة هذه الصورة عن القضاة، ورفعهم الى مرتبة أسمى من وُحول السياسة. وهم، يفترض أن يكونوا كذلك، بالنظر إلى أن السلطة القضائية مستقلة بالكامل، وتمتلك أداة محاسبة للسياسيين، بينما لا يستطيع السياسيون محاسبة قاضٍ. ذلك أن هناك قوانين ناظمة تحكم بالنزاعات القضائية وتعالج الخلافات بين القضاة أو شبهات خرق القوانين، وتفصل بينها، بمعزل عن الحسابات السياسية.

هذه الصورة، كُسرت في التشنج الأخير بين القاضية غادة عون ورئيسها القاضي غسان عويدات. تدخل السياسيون في بداية الأمر، وفرضوا إراداتهم على الملف، قبل أن يتدخل الناس ويصطفوا الى جانب أحد القاضيين، وينقسموا ويتبادلوا الاتهامات حول الفساد والخلفيات... 

ويدفع هذا الانقسام والاصطفاف بصورة "بشعة جداً" عن واقع البلد، ومحاولات السياسة للتأثير في القضاء. القضاة المستقلون يُعربون عن خوف من تعميق هذه الصورة، وطبعها في أذهان الناس، كونها "تساهم في تدمير المرجعية القضائية"، حسبما قال مصدر قضائي لـ"المدن"، وأضاف: "كل من يطلق النار السياسي يميناً وشمالاً، يساهم في زيادة الشرخ وإخراج الأزمة من إطارها الذي يفترض أن تُعالج فيه، وهو الإطار القضائي".


يدرك القضاة رمزية هذا التحول، وتداعياته على استقلالية القضاء في لبنان وتمايزه عن الخلافات والتباينات السياسية. وليس أقل التداعيات هو انفلات الدولة من ضابط مستقل، تحتكم إليه، ويمعن السياسيون في خرق هذه المعادلة التي لطالما حكمت لبنان في عز الأزمات والانقسامات، حيث بقي القضاء مرجعاً، والآن يعول عليه اللبنانيون لإحقاق الحق، وتحصيل حقوقهم، وحماية أملاكهم ومدخراتهم. يقول المصدر منبهاً: "إذا فُقِدَ الملح، بماذا يُملّح؟"

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024