اليافطة الحرجة

روجيه عوطة

الإثنين 2017/03/13
ثمة مواطن قرر أن يرفع يافطة يحتفي من خلالها بتعيين عميد الركن جوزيف عون قائداً للجيش اللبناني، فسجّل عليها عبارةً تكون على قدر المناسبة، مطلِقاً العنان لمخيلته. لعله فكّر بأنه يريد جملة قوية ومتينة، تترك أثرها في كل مَن يقرأها. 

بحث قليلاً، فأحاله تصوره عن المؤسسة العسكرية إلى علم الفيزياء، استمر في بحثه، فعاد إلى الجلبة السياسية الكبيرة، التي كان قد دارت لفترة طويلة حول اليورانيوم وتخصيبه في إيران. عندها، وجد حلاً لمسألته. 

استعان بالفيزياء وبمادة تلك الجلبة، أي اليورانيوم، لصَوغ يافطته. كتب:"الجيش كلتة من اليورانيوم"، نظر إلى عبارته، شعر أنها جيدة، لكنها، غير كافية، فأضاف وصف "حرجة" إلى "كتلة"، ثم، بدأ بتركيب معادلته. فالجيش هو هذه "الكتلة الحرجة"، بمعنى أنها متأزمة وصعبة، وربما محرجة أيضاً. ولكي تتحول إلى أخرى ضخمة، ينقصها عنصر ثان، ما هو؟ راح يسأل. تذكر النيوترون، الذي يشطر اليورانيوم في المفاعلات النووية، فاستنتج أن قائد الجيش هو هذه المادة.  

عدّل عبارته: "الجيش كتلة حرجة من اليورانيوم تحتاج إلى نيوترون لتتحول إلى طاقة هائلة...وأنت النيوترون". قرأها، لم يقتنع، فعليه أن يبين العلاقة بين النيوترون والقائد الجديد، وحينها، مضى من كنية الأخير إلى "التيار الوطني الحر"، فأخذ من إسم هذا الجسم الحزبي نعت "حر"، ناقلاً إياه إلى مادة النيوترون، لتصبح اليافطة على هذا الشكل: "الجيش كتلة حرجة من اليورانيوم تحتاج إلى نيوترون حر لتتحول إلى طاقة هائلة... وأنت النيوترون الحر (جنرال جوزيف عون)...مبروك للبنان"، التوقيع: كارلوس عبود.

لا تنطوي يافطة المواطن عبود على مبالغة.. بل على شطط كاريكاتوري. مضحك، لكنه، في الوقت عينه، مليء بالعلامات، التي، ومع ضمها إلى بعضها البعض، تشير إلى تركيبة مخيلة صاحبها السياسية. ففي قاموس هذه المخيلة، ما عاد من الممكن التعبير عن القوة من دون ربطها بالنووي، ولا يمكن الحديث عن النووي من دون عطفه على الملف الإيراني.

ولذلك، ينتمي هذا القاموس إلى مدونة معسكر "الممانعة والمقاومة"، الذي روج لجبروته النووية، من برنامج إيران النووي، إلى كيمياء مجزرة غاز الأعصاب التي ارتكبها نظام بشار الأسد بحق السوريين في الغوطة الشرقية. فالنووي، بحسب ذلك القاموس، هو علامة السلطة، والصلابة، والحسم، مثلما أنه علامة التعنت والتصميم، ولو من خلال اقتراف الفظائع.

من قاموس النووي، وبغية تفصيله، اختار المواطن عبود عنصرين: اليورانيوم، والنيوترون. الأول، جعله المؤسسة العسكرية. والثاني، قائدها. فبما أن الجيش لا يمتلك القوة النووية، التي تجعله مماثلاً لجيوش أخرى في العالم، أي الجيش البعثي والإيراني والروسي حصراً، ارتأى عبود أن يوفرها له عبر معادلته التشبيهية.

غير أن هذه المعادلة، ولو بقيت من دون نعت "حر"، لكانت ظلت واسعة، بحيث تحوز سياقاً عالمياً. لكنها، بلا سياق محلي، وبالتالي، صار النيوترون "حراً"، ومعه، غدا "التيار الوطني" مشغل القوة العسكرية، وضامن تضخيمها، وتعظيمها. فلا يمكن لـ"حرج" اليورانيوم أن يزول بلا تدخل النيوترون "الحر"، الذي يصبح، هنا، مُعملِق المؤسسة، والبلاد، وناقلهما من حالة المادة الهامدة إلى المادة المتفجرة، من حالة القوة النائمة إلى القوة العملاقة.

يغدو فن اليافطات السياسية في البلاد، من مناسبة إلى أخرى، فناً كوميدياً للغاية. لكنه، بمثابة نص لقراءة مخيلة القوى السياسية وقاموسها، وتصورها العائلي والميليشياوي و"العلمي" عن الدولة ومؤسساتها وشخوصها. فبالإضافة إلى يافطة عبود، هناك مئات اليافطات، من الممكن للمرء أن يعاينها في الطرق والشوارع، ومن الممكن أن يلاحظ ركاكة المغالاة المعلنة عليها. 

فغالباً، ما تجري صياغتها على أساس واحد، وهو إبراز الحظوة، وتكريس النفوذ، لكنهما، وعندما يكونان غائبين، تنقلب الصياغة إلى مبالغة فالتة من عقالها. كاريكاتورية، أكيد. إلا أنها، وبالفعل نفسه، خالية من أي واقع تتصل به، ومن أي وقع تنتجه في متلقيها. فالذي سيقرأ يافطة المواطن عبود، ولو كان العماد عون نفسه ربما، سيتوقف قليلاً، ويقول لمسجلها: هدئ من روعك، أو بالمحكية: "ما بدها هلقد". فلا قدرة لكل هذا الشطط أن يبدد ذرة من "الحرج" الوطني. وفعلياً، لا "يحتاج" الإحتفاء لكل هذا "النووي" ليكون "هائلاً". أما، لكي يكون "حراً" فلا "يحتاج"، بالتأكيد، إلى تلك اليافطة وغيرها.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024