إسرائيل..عدو إسراء غريب الغاشم!

زكي محفوض

الخميس 2019/09/05
إثر "إعدام" الصبية الفلسطينية، إسراء غريب (21 عاماً)، أكان ذلك بسبب محاولة فاشلة لإنقاذها من مس "جنّي عاشق"، كما زعم أخوها، أم بسبب قتل عَمْد وحشي على خلفية انتهاك العَرْض والشرف، تقاطعت العناوين على أن الجريمة "أشعلت غضب مواقع السوشال ميديا"، وهل تغضب المواقع؟... الكرز المدوّد أشعلها أيضاً، والليدي غاغا تلهبها، واما دونالد ترامب فيفجّرها... فما هي قيمة عناوين كهذا، وعلامَ تدل؟ في حالة إسراء، قيمتها صفر، لأن الفضاء الرقمي ليس المكان الملائم لتفجير الغضب حيال قضية عامة حساسة كهذه وغيرها من القضايا المهمة.


لاحقاً، ورد خبر اعتقال منفّذي "الإعدام" من أهلها وأقاربها، وبدوا كثراً تكتّلوا جميعاً ضدّ تلك الحسناء الطيّبة، التي تعمل في مجال إضفاء الحُسْن على الوجوه، غسلاً للعار واسترداداً للشرف المفقود. وشهدت الأراضي المحتلّة تحرّكات تشجّع المرأة على عدم السكوت وتدعو إلى وقف "جرائم قتل النساء"، ولم تغفل عن إمكان تلاعب القضاء بقضية إسراء، فطالبت أيضاً بـ "تحقيقات مستقلة ونزيهة".

وأما دلالات تلك العناوين فعلى العجز في وجه التخلّف والإجرام. و #كلنا_إسراء... لا تكفي، فالهاشتاغات أصلاً في القضايا المهمة هي مجرّد رفع عتب بواسطة رأس الإصبع. وبعض المواقف، في الفضاء الرقمي، مما يسمى "جرائم شرف" تُعتبر بحد ذاتها جرائم، ومنها مواقف مقزّزة، مثل: "البنت لم ترتكب خطأً كي يقتلها أخوها"... فهل هذا يعني أنها لو أخطأت يحقّ له قتلها؟ وهناك مواقف تدعمها معتقدات بائدة ولكن سائدة، من قبيل أن "الرجال قوامون على النساء"، لا يحقّ لهم قتلهن، إنما تعنيفهن او حبسهن في البيت... وثمّة مأخذ على خطيبها الذي اعتُبر متواطئاً بسبب اختفائه عن الساحة وسكوته.

للمرأة الفلسطينية ميزة خاصة، غير أنها أم وأخت وزوجة... فهذه ميزات تجتمع في كل نساء الأرض. ميزتها أنها تعيش في قلب كيان غاصب وفي قلب بيئة غاصبة أيضاً. فما الذي اقترفته المرأة الفلسطينية بخاصة، والعربية عموماً، لكي يُحصر الشرف بها وتُحمَّل مسؤولية انتهاكه، وتعاقَب لمجرّد أن المجتمع والمعتقد يشرّعان ذلك؟

واستكمالاً، يصح التساؤل عن سبب هذا الاستسهال في قتل النساء من فورة دم وأدرينالين إجرامية... مثلما حصل للبنانية منال عاصي، في 2017، حين "نَرْفَزَ" (حنق) زوجها محمد النحيلي منها، فخبط رأسها بطنجرة ضغط ثم انهال عليها ضرباً مبرحاً حتى ماتت!.. وغير ذلك من جرائم.

لعلّ عودةً إلى "انتفاضة الحجارة" في 1987، توضّح ميزة المرأة الفلسطينية التي أخذت تتجلى منذ الاحتلال البريطاني لفلسطين. يوثّق الفيلم الوثائقي "نائلة والانتفاضة"، الذي عُرض في "مهرجان كرامة لأفلام حقوق الإنسان" في 2017 ببيروت، للمخرجة جوليا باشا، من إنتاج مؤسسة "جَسْت فيجن"، ما حدث في تلك المرحلة.

شكّلت الفلسطينيات محرّك الانتفاضة على الأرض. فلعبن دورا مهماً لبلوغ الاكتفاء الذاتي. وتولّين إدارة الشؤون المجتمعية والسياسية. وأنشأن التعاونيات. وشجّعن النساء على العمل في مجالات مختلفة. ودعون نساء القرى إلى المشاركة في التحركات، فلبّين الدعوة. ورشّدن صرف المياه. وأبقين على استمرار المدارس وارتجلن مكتبات للعموم... لكأن قفيراً عملاقاً ظهر فجأة على وجه الأرض وانكبّت نحلاته وملكاته سواسية على خير العمل.

وكنّ يلتففن على مسألة اتّخاذ قرارات سياسية حساسة تتعلّق بالتحركات، من دون الرجوع إلى القيادة في الخارج، إذ كان التواصل منقطعاً. ولكي يخفين عن السائلين في قضايا معيّنة تصرّفهن من تلقائهن، كنّ يستمهلنهم بعض الوقت "ريثما يأتي الجواب". ثم ومن دون أن يأتي الجواب (لأن لا سؤال ولا جواب أصلاً)، كنّ يُصدرن القرارات التي يرينها مناسبة، كما يروي الوثائقي. فالقيادة الفلسطينية في المنفى لم تكن على علم تام بأوضاع فلسطينيي الداخل ولا بمعاناتهم، ولم تكن تطرح الحلول لمساعدتهم. وكان هذا أحد أسباب اندلاع انتفاضة الحجارة، فضلاً عن الاحتلال والضيق الاقتصادي وغياب الحقوق ومصادرة الأراضي وإلحاق القدس...

وعُلم من الوثائقي ومعارف من الداخل أن مجتمعاً مقاوماً حقيقياً قد نشأ، حتى أن رمي الحجارة نُظّم لتلاميذ المدارس (أطفال الحجارة) في دوامين، قبل بدء الصفوف وبعدها، ثم ينصرفون إلى المنزل لإنجاز الواجبات المدرسية والمجتمعية. ومع انقلاب الأسطورة من "دايفيد وغولاياث" إلى "نائلة وشارون"، استقطبت الانتفاضة تعاطف شعوب العالم الذي انقسم بين حكومات تحاول بكل قوة ومكر إحباطها وشعوب تؤيّدها وتناصرها وتهلل لبأس الشعب المستضعف.

وبعد اتفاق أوسلو وعودة القادة الأشاوس إلى فلسطين المحتلة، كشف الوثائقي الخيبة والإحباط على وجوه المناضلات اللواتي أعفين من مهماتهن وحرمن من تذوّق طعم النجاح في إنجازاتهن. استمر بعضهن في العملين السياسي والمجتمعي، ولكن، أمام الهجمة الذكورية، لم يبقَ لغالبيتهن من خَيار غير الإنكفاء بحسرة ولكن بإباء. بِيَدِ من كان قرار إقصائهن؟ لم يكن بيد إسرائيل. يبدو أن "المرأة ظل الرجل، عليها أن تتبعه لا أن تقوده"، قول مشين منسوب إلى الكاتب المسرحي الإيرلندي جورج برنارد شو.

للمرأة الفلسطينية المغشومة ثلاثة أعداء غاشمين، على الأقل: عائلتها المباشرة والمجتمع الأوسع وإسرائيل، فضلاً عن كل من ينحاز إلى هذه الغاشمة الأخيرة. وما حصل لإسراء، المغشومة هي الأخرى، والتي كان لديها محبّون كثر، بدليل إسراعها إلى طمأنتهم بأنها بخير "حتى الآن"، كما كتبت لمتابعي صفحاتها بعد دخولها المستشفى مرضوضة العظام، يشبه ما حصل لمكافِحات انتفاضة الحجارة، مع فارق أن إسراء أقصيت من الحياة بسبب فورة غضب أعشى وجاهل، دفع بثلاثة صناديد من لحمها ودمها إلى الإمعان في رضّها، "دوساً" كما تقول إحدى الروايات، حتى الموت... ولم تشفع لها استغاثتها بصريخ حاد بأن يهبّ أحد لنجدتها... المتواطئون مع الجهل والإجرام لا يزالون كثراً. 

إليكم يا أيها الذكوريون والذكوريات أسماء فلسطينيات بـ "نصف عقل"، على وصف شائع مهين للمرأة، من صاحبات الإنجازات: شادية أبو غزالة. زكية شموط. دلال المغربي. مي زيادة. كريمة عبود. سميرة عزام. مها أبو ديّة. يسرى البربري. هند الحسيني. زليخة شهابي. فاطمة برناوي. فدوى طوقان. ليلى خالد. سميحة خليل. رحاب كنعان. أميّة جحا... فتّشوا أنتم عن مآثرهن.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024