صحافيو اللوموند يتحدون مموليهم:موقف ضد التسلل الروسي

حسن مراد

الأحد 2019/09/15


"زلزال صغير في الوسط الصحافي الفرنسي". بهذه الكلمات وصف الموقع الالكتروني لإذاعة RFI العريضة الموقعة من قبل الصحافيين العاملين في جريدة "اللوموند" الفرنسية. عريضة نُشِرت على صفحات اللوموند يوم الأربعاء 11 أيلول / سبتمبر، كما على موقعها الإلكتروني باللغتين الفرنسية والإنكليزية. من خلالها، نادى الموقعون بضرورة احترام استقلالية الخط التحريري للجريدة.  

هذه العريضة ليست وليدة ساعتها، بل تعود خلفياتها للعام 2010 حين كانت اللوموند تعاني من أزمة مالية خانقة، فدخل ثلاثة مستثمرين على الخط (بيار بيرجيه، كزافييه نيال وماتيو بيغاس) ليستحوذ كلٌ منهم على 20% من أسهم الجريدة. تضاف إليهم أسهم مجموعة "بريزا الإسبانية للصحافة" والبالغة 15%.

ظفرُ المستثمرون الثلاثة بأسهم الجريدة ما كان ليتم دون موافقة المساهم الخامس (بنسبة 25%) والمتعارف عليه بالـ "المستقلين" أي الهيئات الممثلة لمصالح العاملين في الجريدة وإلى جانب قدامى المساهمين. 
من هنا، استعاد الموقعون على العريضة طبيعة التوازنات التي سادت منذ العام 2010. توازنات امتازت بالفصل التام بين رأس المال والعمل الصحافي، أي أن كبار المساهمين التزموا بعدم التأثير على الخط التحريري للجريدة. 
 
لكن منذ عامين والجريدة تشهد تحولات غير مطمئنة من وجهة نظر العاملين فيها: فعام 2017 توفي بيار بيرجيه. قبل وفاته أبرم بيرجيه عقداً لبيع اسهمه لصالح نيال وبيغاس وذلك في حلول العام 2021، وقد أكد ورثة بيرجيه على التزامهم بتنفيذ بنود الاتفاق. من جهتهم تعهد كلٌ من نيال وبيغاس في تشرين الأول 2018 بإعطاء صغار المساهمين (أي المستقلين) حق "الفيتو" في رفض دخول أي مستثمر جديد إلى عائلة اللوموند، تعهد لم يتم احترامه وفقا لما جاء في العريضة. 

فنتيجة الصعوبات المالية التي عانى منها ماتيو بيغاس، باع 49% من اسهمه للملياردير التشيكي دانيال كريتنسكي (ما يعادل 10% من إجمالي أسهم الجريدة) دون إخبار "المستقلين". صفقة أُبرِمَت نهاية العام 2018 ثم تحولت إلى شراكة بين الرجلين، شراكة لاحت معالمها في تموز الفائت حين دخلا في مفاوضات لشراء أسهم مجموعة بريزا. 

 باختصار يخشى صحافيو اللوموند من تمركز الأسهم بيد شخص واحد خاصة وأن هذه الصفقات تُعقد بعيدا عن أنظارهم: فمن جهة سيستحوذ نيال وبيغاس على أسهم بيرجيه، بالتوازي مع إمكانية شراء الثنائي بيغاس - كريتنسكي لحصة بريزا. تضاف إليها ديون بيغاس المتراكمة ما قد يدفعه للتخلي عن مزيد من اسهمه لصالح كريتنسكي لا سيما بعدما أكد مصدر رسمي تشيكي للوموند أن كريتنسكي يطمح للسيطرة على الجريدة. 
 
وعليه، اعتبر صحافيو اللوموند أنهم باتوا بحاجة لضمانة إضافية عنوانها قوننة" حق الفيتو" المذكور آنفاً. فبعد أشهر من المفاوضات اعتبر الصحافيون أن الوقت حان ليوقع كبار المساهمين (نيال، بيغاس وكريتنسكي) على مستند يتعهدون فيه باحترام استقلالية الخط التحريري للجريدة من خلال منح المستقلين حق الفيتو هذا بصورة رسمية، وكان نيال أول الموقعين. 
لكن وبانتظار توقيع الثنائي بيغاس - كريتنسكي قرر الصحافيون إخراج الموضوع للعلن فحملت العريضة بذلك دلالات عديدة. 

أولى هذه الدلالات كان عدد الموقعين والبالغ 460 صحافي وصحافية وهو ما أثار انتباه الشارع الفرنسي ووسائل الإعلام، فهذا الرقم يمثل مجمل الصحافيين العاملين في الجريدة ما يدل على موقفهم الموحد واستحالة تعويل الطرف الآخر على أي خلافات وأو تباينات في ما بينهم. 

الدلالة الثانية تتلخص في أبعاد هذه العريضة: أن يجاهد صحافيو اللوموند للحفاظ على استقلاليتهم فهي رسالة لكسب مزيد من ثقة القراء، ثقة تشكل رأسمالهم الحقيقي. 

من هنا نفهم السبب وراء إخراج الموضوع للعلن وعدم ابقاء المفاوضات في أروقة الجريدة: من جهة تساهم العريضة بزيادة الضغط على بيغاس وكريتنسكي ومن جهة أخرى تؤكد للرأي العام على تمسك اللوموند بمهنيتها أياً تكن الظروف، وهو ما يمكن اعتباره نوعاً من التسويق والدعاية. 
وليس صعباً التنبه أن دخول كريتنسكي إلى نادي المساهمين في اللوموند كان الدافع الاول لخوض هذه المواجهة خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار طبيعة نشاطه الاقتصادي: فكريتنسكي مستثمر كبير في قطاع الطاقة وله مصالح اقتصادية متينة مع موسكو. وفي الآونة الأخيرة، كشفت اللوموند أن كريتنسكي يسعى لتوسيع نشاطه إلى فرنسا وهو ما يتنافى مع تصريحات سابقة له ادلى بها أمام صحافيي اللوموند. 

وعلى اعتبار أن الاستثمار في اللوموند ليس مغريا من الناحية الربحية وفقا لاحد صحافييها، يتضح أن تسويق  كريتنسكي لنفسه داخل فرنسا عبر بوابتها الاعلامية تحكمه حسابات مختلفة: فأن يتحول إلى مساهم بارز في إحدى أهم الصحف الفرنسية (وربما المسيطر بها مستقبلا)، من شأن ذلك منحه سمعة ومكانة تتيح له التقرب من دوائر القرار الفرنسي. من جانب آخر، اختياره للوموند هو خير دليل على نفوذ الجريدة وقدرة تأثيرها. 

بدورها، تدرك الجريدة حجم نفوذها ليس فقط في فرنسا بل أيضا على المستوى الاوروبي. لذا، وبالنظر إلى طبيعة نشاط كريتنسكي وازدواجية خطابه، يسعى الصحافيون لتحصين جريدتهم حتى لا تتحول إلى منبر لبوتين ولأخباره المضللة لا سيما وأن الجريدة الفرنسية تتصدى لانتشار هذا النوع من الأخبار إلى جانب مجابهتها للسياسة الخارجية الروسية.  

أيا يكن مآل هذا النزاع، الثابت حتى اللحظة أن صحافيي اللوموند أقدموا على خطوة غاية في الأهمية. فبصورة عملية اعطوا درسا للوسط الاعلامي الفرنسي حيال ضرورة صون حرية واستقلالية العمل الصحافي وتحريره من كل سطوة ونفوذ مالي وعدم الخضوع لاي ابتزاز تحت مسميات البراغماتية او منطق السوق.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024