البيضة والحَجَر والكورونا

عدنان نعوف

الأحد 2020/03/15
"الحجّ إلى الأماكن المقدسة هو سياحة دينية". "ترتيل الكتب السماوية كالقرآن والإنجيل هو نمط من الموسيقى أو التلحين". "الطقوس الجماعيّة كالصلاة هي عادات متغيرّة تاريخياً وممارسات توفّر الراحة النفسية لأصحابها وإمكانية الضبط المجتمعي للسلطات المستفيدة". "المساجد والكنائس هي دُور عبادة وحسب، وليست "بيوت الله" إلا بالمَجاز اللغوي والإنشاء العاطفي".

بقدرِ ما تبدو هذه الخلاصات بديهية، فإنها كانت "مُضادّة للعقلنة" حتى وقت قريب كان فيه التبسيط بهذا الشكل كُفراً بنظَر شريحة واسعة، ليأتي "عصر الكورونا" لا ليُدخِل الناس في الإلحاد أفواجاً، وإنما ليُفسحَ المجال لتبديد هالات انفعالية وغرائز تحريمية اتّضح أنها قابلة للانفجار كالبالون حين تُواجه أول دبّوس من دبابيس "غريزة البقاء" على مبدأ "يا روح ما بعدك روح"!.

لا نَحتاج إلى استطلاعات للرأي لإثبات ذلك، فمَن لم يتواضع "إيمانهُ" بعدْ، يمكننا أن نطلب منه ببساطة أن يستعين بالغَيبْ، ويترك الأساليب العلاجية "الدنيوية الفانية" لغَيْر المتدينين "التائهين في ظُلُمات العالم المادّي"؛ هؤلاء الذين اعتاد أن يَراهُم "كالأنعَام بَلْ همْ أَضَلُ سبيلا"، أو عليه أن يتسلّح بمعتَقدهِ بطريقة انتحارية، ويجلِس مثلاً بينَ مجموعة مرضى يعطسون!. 

وليس في الأمر فكاهةٌ تتقصّد التَشَفي أو الانتقام كما قد يُخَيّل للبعض، بل رغبةً بالعَودة إلى الفطرة الإنسانية الأرضيّة الجامعة التي تشوّهت بفعل الهويات الدينية المتضخمة، والهَوَس ببناء "العلاقات مع الله ووكلائه وتمثّلاته المرئية وغير المرئية".

الأكيد أن الأديان لم ولن تنتهي - وليس مطلوباً أن يحدث ذلك أساساً - لكنها أصيبت بـ "النسبيّة" أكثر، بعدَ أن تغوّل فيها "المُطلَق" و"النهائي" بمرور الزمن، وطالَ كلّ شيء مستفيداً من إمكانية تجميع أي قناعات فرديّة وتحويلها إلى "أديان جديدة" تنتمي نظرياً للإسلام أو المسيحية أو سواها، وتتبع لها مجموعات بشرية محتقنة ومترقِّبة لأيَ "استفزاز" تخدُش مشاعرها رؤية إنسان مُفطر في رمضان، أو رسم كاريكاتوري لرمز ديني (يعترِف أتباعه بكونه مخلوقاً آدميّاً، لكنهم لا يسمحون بأن يُعامل كالبشر، ويتوعدون من يتهكم من صورته - لا من شخصه الواقعي غير الموجود - بالأذى أو القتل!).

وَحدَهُ "الكورونا" أنزلَ مظاهر "الجهل المقدس" إلى أرض الواقع (أقلّه في عيون الخائفين والحريصين) بعد أن كانت قد ارتفعت إلى سمَاوات التمجيد الأعمى. مَرَضٌ واحد أعادَ التديّن إلى حجمه وبدائيته بوصفه ملجأً للإنسان للتغلب على قوى الطبيعة لا أكثر، فها هو ترابُ القديسين يبدو كمادةٍ جامدة لا تنفع ولا تضرّ عملياً إلا لجهة إراحة نفوس المؤمنين، وها هم رجال الدِّين يُسمّون الأمور بأسمائها فيتحدثون عن تحديد أو إيقاف "العِبادات" وضرورة الحفاظ على الإنسان، وأولويّته على الكائن الدوغمائي المؤدلج المسمى "عقيدة" والمُكوّن من مزيج يرفض التفكيك والفرز. 

وطبعاً لم تكنْ لتَمُرَّ هذه اللحظة الاستثنائية، وفرصة المجتمعات للاستيقاظ من التخدير دون أن يستدرِكَ "المخدِّرون"- وما أكثرهم - ما جرى بِحَقْنهِا بجرعات إضافية، فخرجَ علينا مَن يلتفّ على الموقف العقلي عبر استنتاجات خرافية تتلطّى خلف الابتذال لإيصال رسائل جدّية ضمنية، كالحديث عن"تنبّؤ فلان من الرموز بما نحن فيه اليوم"، أو أسبقية هذا الدين أو ذاك في فرض زيّ ما على أنه ذو وظيفة طبيّة كالنقاب مثلاً!" أو ترديد ما نعرفه من أسلحة الطمأنينة كـ "أذكار الصباح والمساء"، والإكثار من الدعاء. 

هذه المحاولات إن دلّت على شيء - في وقت يستنفر العالم بإجراءاته الصحية المختلفة - فهي تدلّ على خوف السلطات الدينية والسياسية من خروج بعض الناس عن "الإجماع" وعن منظومة تلقين الطاعة باسم القوة الإلهية. 

وعلى هامش المعركة الأساسية بين العقل والخرافة كان لا بد من وقوع معارك جانبية بين النرجسيات الطائفية التي تغذّي الاسترخاء الذهني عادةً، بإيحائها بتفوّقِ جَهْلٍ ذي لون معين على أقرانه. وهو ما رأيناه في سخرية مُستخدِمي تطبيقات للتسبيح الالكتروني ومعرفة الطعام "الحلال والحرام" مِن نُظَرائهم زوّار مقامات الأولياء، أو العكس!. 

غير أن التدخل الإسعافي الأكثر وضوحاً لصالح إنقاذ "الوهم" جاء من طرَف مجموعة من المثقفين وقادة الرأي الخبراء في مجال تربية وتسمِين العقائد الغيبية بطرق غير مباشرة وأكثر عصريّة. وعلى رأس هؤلاء الإعلامي طوني خليفة الذي حوّل السِّجال مؤخراً بخصوص قدرة تراب القديس شربل على الشفاء من "كورونا" إلى مناسبة لدفاع إستعراضي عن "المقدسات".

وإلى جانب خليفة هناك شخصيات أخرى ذات وزن فكري يمكن أن نصطلح على تسميتها بجماعة "البيضة والحجر" كتلخيص لسلوكيات تجمَعُها مهارة اللعب على الهشاشة والصلابة النفسية لدى الجمهور، دون كسرِ "بيضة اليقين". وهو ما قام به خليفة ضمن برنامجه على قناة "الجديد" حيث بدا كشُّرطي يَفضّ نزاعاً بين فريقين (مؤمنين وملحدين) عبر حماية "أصحاب الإيمان" من ظُلم السّاخرين!. 

ويتلخص دَور مثقفي "البيضة والحَجَر" بالإيهام بوجود قِسمَة تفترض الاستنفار لمواجهة "عَدوّ" واحد متجانس. وهذا تزييف ومغالطة فاضحة، فمَن يستخدمون عقولهم لنقض الخرافات لا يشكلون مجموعة "إلحادية" فيها أفراد متماثلون كما يُشاع، فنحن أمام أشخاص ذَوي توجهات متنوعة (رافضين لفكرة وجود إله، ربوبيّين، أبناء طوائف مختلفة..) يَجمَعُهم مُشتركات قليلة كتحديد دَور الماورائيات في الحياة اليومية، وعدم السعي لـ "تلحيد" البشر وتقاضي "ثوَاب" معنوي ومكافآت ماديّة بالمقابل، كما في عمليات "التنصير" و"الأسلمة"!.

ولمحترفي لعبة "البيضة والحَجَر" مهاراتٌ إضافية منها الحذلقة اللغوية، كَتعمُّد استخدام مفردات غير مفهومة بهدف صناعة جمهور يَضمّ إما نُخبة ثقافية فاهمة أو عَوامّ مبهورين ببريق الكلام الغامض، أو الإثنين معاً. وتتجلّى هذه الحذلقة أيضاً في "الهُجوم العادل" على الجميع (كي لا يشعر أتباع الخرافات بأنهم مستهدفون لوحدهم) ولو كان ذلك على سبيل النحت اللفظي لخَلقِ تيّارات مفترضة من عفاريت "العلمويّة" أو "العلمانويّة"!.

قائمةٌ طويلة منَ الأهداف تفسّر مواقف جماعة "البيضة والحَجَر" بينها الاستعراض وصناعة جمهور وصولاً إلى السَّعي لزيادة الأرباح ومعدلات المتابعة والمشاهدة، وهو ما لا يمكن تجاهله في ظروف عصرنا الحالي، وبالتالي تصبح المطالبة بإنضاج المجتمع مِثاليّةً تقترب من الدونكيشوتية. لكن ومن وجهة نظر ثانية، لا ينبغي أن يأخذ الهوس الانتفاعي صاحبه إلى استثمار غير محدود لِسُيولة الدين (كمفهوم لم نعُدْ نعرف أين يبدأ وأين ينتهي)، أو حراسة الهشاشة ومباركتها وتسليعها، ففي اللحظات الحاسمة من تاريخ البشرية يجب أن توضع النقاط على الحروف كي يكتمل المعنى، ولو كلّف ذلك بعض الألم نتيجة زوال أثر المُخدِّر.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024