"لولو" لم تذق فاكهة المعرفة

يارا نحلة

الجمعة 2021/04/02
"بشرفكن في أهبل من كلبتي؟".. كنت غالباً ما أسأل أصدقائي باعتزاز. يقولون أن الكلاب تكبر لتصبح على صورة أصحابها، وكنت أحب "الهبل" الذي يتسرب مني ليستقر في خصال "لولو"، وبالأخص في ملامح وجهها حين ترسم ابتسامة واسعة بلهاء مع عينين مضاءتين بالدهشة والحماسة.

ما نسميه بلاهة هو كناية عن أمور كثيرة أخرى. الدهشة التي تبديها الكلاب إزاء أتفه الأشياء، مهما تكررت وأصبحت رتيبة، كظلٍّ على الحائط أو مكنسة كهربائية، وفي حالة "لولو" المكنسة العادية كانت أيضاً سبباً وجيهاً للدهشة. البهجة المطلقة التي تعتريها عند ممارسة طقس التبرز الروتيني، ذلك الذي يستدعي الخروج من المنزل كل يوم لتمشيط الشوارع نفسها في الحي الحقير نفسه وملاحقة القطط نفسها، مطاردة تنتهي كل مرة بهزيمة "لولو"، لكن ذلك لم يحط من عزيمتها يوماً. عجزها عن تمالك نفسها واحتواء بهجتها، واستسلامها للتبول اللاإرادي، كلما رن الجرس وأطلّ زائر جديد.

في رواية "الكائن الذي لا تحتمل خفّته"، يتحدث ميلان كونديرا عن شاعرية الحب بين الإنسان والكلاب، واصفاً إياها بالهِبة التي لا يمكن لغير الحيوانات منحَها "لأن البهائم فقط لم تطرد من الجنة". فالكلاب لم تذق فاكهة المعرفة ولها كامل الحق في الاحتفاظ بسذاجتها.

بيني وبين "لولو"، اتفاق ضمني؛ هي تعلم كل شيء، لكنها لا تبوح. تتظاهر بأنها لا تفقه شيئاً. سذاجتها شكل متفوق من أشكال الاحتيال. كشفت نقاط ضعفي، الواحدة تلو الأخرى، واستغلّتها حتى النفَس الأخير. استغلت إهمالي وتقصيري في تدريبها، فضلاً عن كرهي لأساليب تطويع الكلاب، لتتظاهر بأنها لا تفهم شيئاً من التعليمات التي توجَّه اليها، أو الحدود التي سبق رسمها. بالطبع، تنزل عليها هذه المعرفة مرة واحدة، حين يطلب منها الامتثال لتعليمات بعينها كشرط للذهاب في نزهة أو الحصول على عَظمَة.

لكن الكلاب تعرفنا. تعرفنا جيداً. تعرفنا بقدر ما نمارس إسقاطاتنا عليها، فتستقبل هذه الإسقاطات بكل رحابة وترعاها داخلها، كشكل من أشكال الحفاظ على الذات ضمن حلقة الانتقاء الطبيعي. ونسمي ذلك بلاهة. خلف تمثيلية التماسك الذاتي والذكاء البشري المتفوق، ترى الكلاب تشققات أرواحنا، تلك التي يسكنها الضعف والخوف وحاجاتنا الوضيعة للحب والاهتمام والتملّك.

تطورت الكلاب جنباً الى جنب مع جنسنا البشري لفترة طويلة، بما يكفي لإسقاط رموزنا عليها، وليست طاعتها سوى ترجمة لقبولها بهذا الدور الموكل اليها ورضوخها له، بكل وداعة وبعض النبل. يضع داروين الكلاب في منزلة الكائنات الخاضعة طبيعياً للبشر، وهو ما يجعلها تخدم البشر بشكل لامتناهٍ ومن دون نقمة. يفتح ذلك طريقاً للحب بين السيد وعبده، حبٌ يصرّ داروين على تمييزه عن العطف أو الشفقة، بل ويشبهه بحب الأم لطفلها، الذي يقوم هو الآخر على ثنائية الهيمنة/الخضوع.

إن هذه السلطة الاحيائية التي يملكها الإنسان على الحيوان الأليف، الى جانب شراكتهما البيولوجية، تجعل الأخير "شريكاً في جريمة التطور البشري،" بحسب تعبير دونا هاراوي، وهي عالمة بيولوجية وانثروبولوجية ومربّية كلاب. تتردد أصداء هذا الرأي في كتابات فرجينيا وولف، وهي كانت بدورها مربّية ومحبّة للكلاب، حين تتحدث عن واحدة من خطايا الحضارة الراقية المتمثلة في تخلي هذه الحيوانات البرية عن طبيعتها مقابل مسايرة طبيعتنا.

لكن، رغم هذه المقايضة التي دفعتها الكلاب ثمناً لمشاركتنا مسار التطور البيولوجي، أبت هذه المخلوقات التذوق من شجرة المعرفة. وهي لذلك، لا تعرف معنى إخفاق الرغبة واستعصائها. فهي ترغب في كل شيء ولعدد لانهائي من المرات. الكلاب لا تعرف لعنة إشباع الرغبة التي تترك النفس أكثر خواءً مما كانت عليه. تذكّرنا بما تخلينا عنه في عبورنا من مملكة الحيوان الى عالم "الحيوانات السياسية"، على حد تعبير أرسطو.

لقد كان ذاك الذهول الساذج لدى "لولو" بمثابة ترياق للخواء والرتابة اللذين أرى العيش من خلالهما. وكانت حركتها الخرقاء حولي، وأنا مستلقية على السرير تحت وطأة الاكتئاب، ترسم في ذهني مشهداً محبباً. كانت حماستها تعويضاً عن كسلي، وإلحاحها تعويضاً عن استسلامي. وقد كانت في خضوعها لي، ورغم الرباط الذي يطوق عنقها، أكثر حريةً مني.

لكن أكثر لحظاتنا تماهياً هي عند تشارُكنا حالة الضجر. لكل منا أسبابها الخاصة للضجر، لكن الأمر أشبه بتشارُكنا الزنزانة نفسها، وإن كانت قضبانها حقيقية بالنسبة إلى "لولو" ورمزية بالنسبة إلي. ورغم الاختلاف في السّمات والأسباب، نحيا هذا الضجر كحالة موحدة. يتسلل من إحدانا الى الأخرى، ويتعاظم حجمه، إلى أن يغطي مساحة البيت بأكمله، ويكاد يبتلعنا. كانت "لولو" الأسرع دائماً في إعلان ضيقها ومحاولة تبديد هذا الملل بإطلاق تنهيدة بحجم سأمها وسأمي مجتمعَين، فتجدني أردد دونما تفكير "سايم يا لولو.. سايم...".
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024