دريد لحّام منافساً الماغوط.. عداوة مهنة؟

عدنان نعوف

الأحد 2021/02/14


"غوّار يَمدّ يده إلى حصّة غيره كعادته، ليأخذ ما ليس له". يَصلُح هذا الإيجاز لتلخيص رؤية جمهور سوري واسع أغضبتهُ تصريحات الفنان دريد لحام التي تحدث فيها عن مشاركته للكاتب محمد الماغوط في تأليف أعمال مسرحيّة جمعتهما. 

واستخدم مُعلّقون في وسائل التواصل الاجتماعي أوصافاً قاسية بحقّ لحّام، كالقول إنه "متسلق، وانتهازي، ولاعب يقفز على الحِبال، وخائن لأصدقائه ورفاق دربه.."، ولم تستطع الآراء التخصصية والموضوعية العارفة بعلاقة "الشريكين" أن تلطف من ردود الفعل.

والحال أنّ التشنج باتَ يمثل سمة عامة لدى منتقدي لحّام على اختلاف دوافعهم ووجهات نظرهم، لكن ذلك لم يُلغِ حقيقة برزت بوضوح هذه المرة، وهي أنّ هناك حدساً جماهيرياً يفعل فعله حين يُغلّب الفنّ، أو يعطيه مساحة كافية في زحمة التسييس.

وبملاحظة بسيطة، يمكن التوقف عند النرجسية الفائضة المختبئة خلف دبلوماسية لحّام ومجاملاته. "خود مثلاً فريق برشلونة أو ريال مدريد... فيقال فوراً ميسي أو رونالدو.. فإذاً هناك شخص لم يخطف الأنظار من الآخرين، بل هي توجهت له". لن يحتاج تصريح كهذا لتحليل عميق، ولعله يشكل أفضل نموذج عن طريقة لحام في إيصال ما يريد بطريقة ناعمة تغلفها تكتيكات "السهل الممتنع".
ربما يقال إن هذا الفنان مُستهدَف بسبب نجوميته أو مواقفه المؤيدة للنظام السوري. غير أن هذا التفسير لا يَصِح عموماً كون لحّام -على عكس الماغوط - استطاع أن يَجمع معارضين وموالين على نقده بلغةٍ تفيض بالشتائم. يُضاف إلى ذلك حقيقة أنّ تصريحات بطل "صح النوم" خصوصاً في السنوات الماضية حاولت تكريس صورته كـ"مؤلف ناجح" عبر تكرار فكرة مفادها: "إنّنا أنا والماغوط فشلنا في الكتابة حين افترقنا"، مُستفزاً بكلامه هذا جمهور محمد الماغوط صاحب البصمة الشاملة في نثرياته وأشعاره وموقفه الفكري والإنساني. 

والأسوأ أنه عند التطرق إلى الخلاف الذي حدثَ بين الطرفين بعد فترة تعاون، يلجأ لحام إلى تسخيف الموضوع، قاصداً أم لم يقصد، بقوله "لقد اختلفت مع الماغوط، لكننا اتفقنا في الوطنية"!. 

وهذه مفردات لطالما عُرف بها لحّام، فهو الذي يَحشُر "الوطن" في كل شيء بمناسبة وبدون مناسبة، مستخدماً رطانة عاطفية مُنفّرة أنزلته تدريجياً من مسرح التلميح  السياسي، ليجدَ نفسه بالنتيجة وهو يَمدحَ "القداسة في روح المرشد الأعلى للثورة الإسلامية الإيرانية"، فأصبح في عيون كثيرين بُوقاً سياسياً لا فناناً.

بهذا المعنى، فإن أزمة لحام -إذا صحت تسميتها كذلك- تتجاوز طبيعة وحدود طموحه وأدواره، لترتبط أكثر بتأثير وسائل إعلام تُصرُّ على تحويله إلى أيقونة جامعة للاختصاصات، وعدم اكتفائها بحقيقة كونه ممثلاً أجاد في أعمال وأخفق في أخرى، ونالَ شعبية كبيرة في مراحل معينةَ، في حين ظلّ نتاجه مَحلّ جدلٍ بين من يرونه مرجعية في الكوميديا، ومن يهاجمون "تهريجه واتكاءه على نجاحات الآخرين". 

كلُّ ذلك لا ينفي طبعاً أنّ هناك في المقلب الآخر هالَةً أحاط بها جمهور الماغوط شاعرهم، فرسموا له في مخيلتهم سيرة حياة درامية تُعفيه من المسؤولية عن أخطاءٍ وقع فيها، سواء كانت بسبب الحاجة المادية أو بدافع السعي للانتشار والوصول إلى أكبر شريحة ممكنة، مثلما جرى لدى تعاونه مع لحام. 

ويمكن القول أنّ المكانة التي حازها "سنونو الضجر" بين الناس جاءت كمحصلة لأكثر من عامل، فهناك خصائصه الإنسانية والإبداعية ككاتب جمعَ في شخصه أحلام شعوبٍ عربية وأفراد متمردين، فضلاً عن معاناته كأي إنسان يحمل سَجيّته حيثما ارتحل ليصطدمَ بالباحثين عن الشهرة والمكاسب السريعة. 

ولا ننسى أيضاً أسباباً أخرى حوّلتْ الثنائية الضديّة "الماغوط - لحّام" إلى "عداوة مهنة"، أبرزُها تمسّك الجماعات السوريّة الطبقيّة والمناطقية برموزها، وتحديداً بعد أن فقدتْ إحساسها بحضورها الثقافي، وماتت لديها الآمال بالمستقبل، فلم يبقَ عندها سوى الإرث والتاريخ، ليصبح بالتالي رمز كالماغوط قلعةً أخيرة يتحصن فيها المقهورون والمدافعون عن القضايا الخاسرة، وعلى رأس هؤلاء أبناء مدينته ومسقط رأسه (سلميّة) الذين لا يرون في "بدويّهم الأحمر" مصدر فخر وحسبْ، وإنما تجسيداً أمثل لشخصية "ابن البلد" الإشكالي السّاخر بمرارة والمغرّد خارج السرب، والمُثقل بمزيج من الفطرة الأولى، والثقافة الموسوعية، ولذة الانبهار، وفقر الحال، والجوع للنجاح والتجريب.

وهكذا فإن علاقة لحّام بالماغوط، وانعكاسها على السوريين انفعالاتٍ قهريّة، هي في أحد تأويلاتها مثالٌ لعلاقات "المدينة والضيعة" والتي عبّر عنها الماغوط بشكل غير مباشر في إحدى مقابلاته قبل وفاته، فقال: "الشام بتاخد ما بتعطي"، فلامسَ بقوله هذا جوهر شَراكةٍ نهايتها معروفة، ففيها يَربح المدينيّ كلَّ شيءٍ "قريب" و"سهل" و"مُتاح"، فيما يفوز الريفيّ بـ"خسارة" سَعى إليها بعد رحلة مطاردة للقِيَم والأسئلة. 

وهنا نحن أمام خاسر من نوع خاص، فهو شاعرٌ وعى باكراً أنّ الإبداع يحيا بالكوابيس، فبنى للحزن مملكةً، وأسّسَ للخوف مذهباً، وأمضى حياته حَطّاباً للأشجار العالية والخيارات القصوى، وثائراً أبدياً على كل أشكال التدجين الفكري. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024