"صفقة ترامب".. مخاوف أمّ وابنة وكاتبة فلسطينية

بديعة زيدان

السبت 2020/02/01
ما الذي سيحدث؟ .. سؤال رافقني، وما زال، منذ بث الخبر عن نيّة دونالد ترامب الإعلان عما سُمّي "صفقة القرن"، وتحديد الزمان والمكان. وهو سؤال يرافقني، كما جلّ الفلسطينيين، منذ أن بدأ عقلي ينبض بوعي.

لكن، هذه المرة، غلَبت مشاعري كأمّ، أي مشاعر أخرى بداخلي. غلبَت الصحافية والكاتبة فيّ، وطفلة الحجارة التي كنتُها ذات مرّة عابرة، وتلك الغارقة في عالم الكتب والروايات على وجه الخصوص. بل تجاوَزَت مشاعري العميقة كإبنة، لأمّ يتسع صدرها الحنون لكَون أو اثنين أو يزيد، وكوني شقيقة لشقيقات وأشقاء الرابط بيننا يكاد يكون كذلك الحبل السرّي الذي لم ينقطع يوماً، كما هو حالي مع بناتهم وأبنائهم.

لكن ماذا عن حسام، ابني الأكبر؟ وماذا مُضاعَفة، عن يزن، ابني الثاني والأصغر؟

القلق من المستقبل المعتم، هذه المرّة كان أضعافاً، مع أني عشت الانتفاضة الأولى العام 1987، وكانت لي فيها حكايات لا تنسى، وعشتُ فرحة استقبال "جيش فلسطين" المفترض مع عودة الآلاف برفقة الرئيس الفلسطيني الشهيد ياسر عرفات إثر "اتفاق أوسلو"، والذي لم أكن أكترث لتداعياته وقتها. ثم شاءت الصدفة أن تتزامن حفلة زفافي مع انتفاضة الأقصى العام 2000. وترافقت ولادتي لولديّ وما حولهما من حكايات موجعة، مع سنيّ الاجتياحات والقصف المتواصل لرام الله، حيث درست وأعيش، ولبلدة بيت ريما، مسقط رأسي القريب والبعيد من المدينة بفعل الحواجز العسكرية وعربدات المستوطنين. فحُسام ولد مطلع العام 2002، ويزن منتصف 2003، أي "في عز الأحداث".

القلق مضاعف على يزن ابن السادسة عشرة. هو يقضي الآن سنَة تبادل ثقافي في هوليوود بالولايات المتحدة، يلتفّ بالكوفية الفلسطينية في عاصمة السينما الأميركية، ولا يغادره القلق منذ خبر الإعلان. هو الذي سيعود في الصيف إلى فلسطين، ليكمل عامه المدرسيّ الأخير في مدرسة محاذية لمستوطنة جبل الطويل (بساغوت)، حيث استُشهد وأصيب واعتقل فيها ومنها كثيرون، على مدار سنوات، وما زالوا. فهو وأبناء جيله، يشكلون صيداً ثميناً، حتى ولو لم يفعلوا إلا أن يمارسوا الشهيق والزفير. صيد ثمين لجنود جيش الاحتلال، وللمستوطنين المدججين بالسلاح، والمتعطشين للقتل كما سابقيهم. فلطالما فرّ خوفاً، مع أنه لا يحمل إلا حقيبته المدرسية، خشية اعتقال عشوائي بلا سبب.. أما حسام الذين يدرس فنون الطهي في عَمّان، فالقلق عليه نابع من قلق جمعي على المستقبل الاقتصادي للعائلة، في ظل العقوبات المتوقعة على الشعب الفلسطيني برمّته، والتي ستطاوله شظاياها بلا شك.

وقت الإعلان، وبينما كان كل من ترامب، و"بيبي" القاتل، يمازح واحدهما الآخر، ويصفّقان، ويتغامزان في حركات صبيانية، وبينما أُعلن حضور ضيوف عرب في حفلة تطويب ما تبقى من فلسطين، للاحتلال، استرجعتُ شريط عمري في هذه الأرض، وما ورثته من حكايات عن والديَّ، وما ورثاه هما من حكايات عن الأجداد، حول أراضٍ كانت لنا. فبلدتي قبل النكبة كانت تتبع مدينة اللد، حيث المطار الذي بات الرئيسي في ما يسمى "دولة إسرائيل"، ويسمّونه "بن غوريون". كانت أمي تذهب إلى اللد سيراً على قدمَيها، هي ورفيقاتها، لإحضار الملح من شاطئ البحر الذي كان فلسطينياً وقتها، وكنّ يحملنه على رؤوسهن. اليوم، تتبع "بيت ريما"  لمحافظة رام الله والبيرة، وإذا ما قرر الاحتلال أو مستوطنوه أن يغلقوا البوابة الحديدية على مدخل قرية "النبي صالح" المجاورة، فإنهم سيعزلون بلدتي عن مدينتهم ما بعد احتلال العام 1948، أي رام الله.

أسرتي كلها تعمل في وظائف عمومية، ولطالما طاولتهم وتطاولهم أزمات مالية بسبب سياسات الاحتلال بين فترة وأخرى. ومن المتوقع أن رفض الفلسطينيين لصفقة ترامب سيضيق الخناق على الجميع، وهُم في المقدمة، وهذا من شأنه أن يربكهم كما حال قرابة مليون فلسطيني يعتمدون وأفراد أُسَرهم على هذه الرواتب، ويزيد العدد إذا ما تحدثنا عن التأثيرات غير المباشرة.

أما الثقافة الفلسطينية، والتي رغم كل معوقات الاحتلال، ما زالت منتعشة، فهي أيضاً تستشعر الخطر. فكل يوم، تشهد رام الله بالدرجة الأولى، وإلى حد ما غالبية مدن الضفة الغربية بما فيها المؤسسات الثقافية والفنية الفلسطينية في الجزء الشرقي من القدس، فعاليات نوعية، علاوة على مهرجانات منتظمة. بعضها تنظمه وزارة الثقافة الفلسطينية، رغم شح موازنتها، مثل معرض فلسطين الدولي للكتاب، وملتقى فلسطين للرواية العربية الذي أنسّق له منذ انطلاقته العام 2017. وغيرها من المهرجانات التي تنظمها مؤسسات ذات طابع أهلي غير ربحي، وتتنوع ما بين الأدب، والفنون بأشكالها المختلفة، حيث السينما، والمسرح، والغناء، والفنون الشعبية، والرقص المعاصر، والراب، وغيرها. كلها الآن باتت مهددة، كما المؤسسات القائمة عليها، أكثر من أي وقت مضى. فالدعم الحكومي شحيح، شح موازنة وزارة الثقافة. والمؤسسات الأميركية توقفت عن الدعم في غالبيتها، منذ فترة، كون الفلسطينيين رفضوا ربط الدعم بالتوقيع على ما يُسمى "وثيقة الإرهاب"، وهو ما بدأ الاتحاد الأوروبي بتطبيقه، حيث تضم اللائحتان فصائل وحركات وأحزاب فلسطينية.

لكن، رغم كلّ هذه الصورة القاتمة، وهي فعلاً كذلك، ما زال الفلسطينيون على قيد الحياة، والأمل، والمقاومة... ما دامت في الأرض حجارة، وما دامت القلوب تنبض، والحناجر قادرة على الهتاف، وما دام المبدعون مستمرين في الإبداع، للتأكيد بأنهم يسعون إلى الحياة ما استطاعوا إليها سبيلاً.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024