جنّة العيش مع أتباع الشيطان

وليد حسين

الأربعاء 2019/07/31
كانت والدتي بإيمانها الفطري، إسوة بنساء قريتنا، تضع "الإيشار"، حاجبة شَعر مؤخرة الرأس "للرب" وكاشفة الغرّة "للشبّ"، كما كان يقال قديماً. وكانت لا تصلّي إلا في شهر رمضان. ولطالما سألتها وإخوتي، نحن الذين نشأنا على إلحاد أبي، عن هذا التناقض بين إيمانها بالله وعدم تأدية "واجب" الصلاة. وكان جوابها الدائم: "ما حدن راح ورجع خبّر شو في بالآخرة... بلكي طلع في الله".

هي إجابة بسيطة لامرأة "أمّية"، عاشت في زمن عندما كان العِلم حكراً على الرجال في القرى. لكنّ إيمانها الفطري يكشف مدى بساطة الدين في المعتقدات الشعبية في زمن ما قبل دخول الإسلام السياسي والتعصّب والتطرّف والإكراه في السير على الصراط المستقيم.

أما عمّي الشيوعي، الذي سار لفترة طويلة مع "اتحاد الشيوعيين"، فكان يواظب على قراءة القرآن، إسوة بمطالعته كتب لينين وماركس. لكنه، بخلاف أمي، كان لا يقطع فرض صلاة، إسوة بسهرات شرب الخمر مع والدي وأصحابه! وعندما كنت أحتجّ مستفسراً منه عن هذا التناقض بين الانتماء إلى الإلحاد والتزامه الديني، كان يجيب بكل بساطة: "كل شي بحسابه والعدس بترابه. الله سيحاسبني في الآخرة على أعمالي الخيّرة ويعاقبني على تلك الشريرة". ومثله مثل أمي، كان الدين بالنسبة إليهما معاملة وإحسان، والله يعلم ما في النفوس، حيث لا تنفع المظاهر.

أتذكّر هذه الشواهد من عمر الطفولة والمراهقة، خصوصاً أن المظاهر الدينية التي عاينتها بالغاً في المدينة في مرحلة التسعينيات، جعلتني أكثر صلابة في إلحادي وغير متسامح مع المتديّنين بتاتاً، متقصّداً حتى "التجديف" والاستهزاء بالدين كلما سنحت لي الفرصة. إلى أن غيّر عيشي في إيطاليا بعض معتقداتي. وبتّ أكثر ليونةً مع المتدينين، متفهماً ما يجول في دواخلهم. حتى أنّ الشكّ أصاب إلحادي، وبدأت تلك النوازع غير الإلحادية بالتسلل إلى دواخلي أثناء دراستي الفلسفة في لبنان. لكن زياراتي المتكرّرة للكنائس في إيطاليا، لمتعة تذوّق الفنّ، جعلتني محبّاً للإصغاء إلى معجزات القديسين، حتى لو كنت أعتقدها مجرّد خرافات لا أكثر. وكنت أستمتع بسماع روايات أحد أساتذتي الإيطاليين، المحب للدين والإيمان، والكاره بشدّة للإلحاد والملحدين، عن الحياة التي عاشها في الهند باحثاً في شؤونها الدينية والتاريخية. وعندما سألني مرّة عن معتقداتي وأجبته بأني ملحد، ولستُ شيعياً كما يريدني هو، رفع يده ولم يأخذني على محمل الجدّ. ووصل به الأمر يوماً للقول أمام جميع زملائي، بعد عودته من وعكة صحية، راسلته خلالها للاطمئنان على صحّته: "تبّين لي أنّ المسيحي الوحيد في هذه القاعة هو وليد!".

هذه التجربة المعطوفة على مشاهد الطفولة والمراهقة في بيتي وعائلتي الكبيرة، زادت من نوازعي غير الإلحادية، وجعلتني متسامحاً مع فكرة أنّ الدين محبّة والله جميل، خلافاً للشيطان القبيح الذي "يوسوس في صدور الناس" محرّضاً على الكره والحقد والبغضاء. ولكثرة ما أطنبت في فكرة أنّ المسيح رمز السلام و"أحبوا بعضكم بعضاً"، وأنّ دين الإسلام هو دين محبة، بتّ أرى كل شرور الأرض صنيعة الشيطان وحده. كيف لا، وهو المتمثّل بالنار وبذاك الكائن البشع "بعبع" الأطفال؟

صورة الشيطان تلك لم تغب عن بالي في معرض التهم التي يحاجج بها بعض المتزمّتين المسيحيين، من مواطنين عاديين وسياسيين ورجال دين، لمنع "مشروع ليلى" من إحياء حفلة غنائية في مهرجانات جبيل الدولية. فهل فرقة موسيقية، سلاحها الوحيد الأغنية، هي من عبَدة الشيطان، بينما من هدد بالقتل والحرق و"الدعوسة" وإحداث الفوضى، من عبَدة الله؟ وكيف للمبشّرين بالخير والسلام والمحبة، أن يتوسّلوا أدوات الحرب والنار للدفاع عن العقيدة، أي لغة الشيطان، بينما مَن يدندنون الموسيقى وينشرون الفرح والمرح، أي ما يفترض أنه من صنع الله، يُتهمون بأنهم من أتباع الشيطان؟

كان جارنا، وهو ذائع الصيت في القرية، يردّد دائماً في معرض تناول شخص شديد البشاعة لا يروق له: "هلق الله خلق جورجينا رزق، وفلان؟"، مشيراً إلى ذاك الشخص القبيح، ويجيب بالنفي. وهذه إحالة إلى ما نشهده اليوم من حَمَلة "السيف والترس"، أي سَفَكة الدماء، بوجه فرقة موسيقية ظنّت أنّ حرية المعتقد والتعبير تنطبق عليها مثلما تنطبق على المؤمنين بالله. وهذه الحرية يفترض أنّها تشمل حتى من يروّج لعبادة الشيطان، أسوة بعبادة الله. فهناك في "عاصمة الكثلكة"، حيث المؤمنين كثر، يكاد لا يخلو حديث بين شخصين، أو حتى محاضرات في الجامعة، من الكلام التجديفي بحق حواء وآدم والمسيح والعذراء. ولطالما استغربت هذا الكلام على لسان أصدقائي المؤمنين، الذين لا يبارحون الكنيسة في أيام الآحاد.

وفي ظل "غيرة الدين" التي تدفع ببعض المسيحيين إلى التنافس مع عتاة المسلمين الذين يتوسّلون "حرق السفارات" غضباً من الإساءة إلى دينهم، يصير ملاذنا الوحيد الشيطان، طالما تبيّن أنه يعزف الموسيقى ولا يهدّد بالحرق والضرب وإشهار السلاح. حتى لو كانت الجنّة كما يصفون، أردّد ما قاله أحد الأصدقاء يوماً: أريد الإكثار من المعاصي، كي أخلُد في النار مجاوراً هذه الفنّانة أو تلك الراقصة، على الخلود إلى جانب رجل الدين هذا، أو ذاك السياسي والفنّان الفلاني، من الموعودين بالجنّة.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024