من حلب الى "الباستيل"...عنف الشرطة الفرنسية وحصانتها

حسن مراد

الأحد 2020/11/29
منذ أن بدأ التداول بقانون الأمن الشامل، باتت الحكومة الفرنسية أشبه ما تكون بذاك الفيل المحاصر داخل حجرة مليئة بالكريستال محاولاً النفاذ منها بأقل ضرر ممكن، لكن من دون جدوى. 

وكانت الجمعية الوطنية الفرنسية قد اقرت قانون الأمن الشامل وحولته إلى مجلس الشيوخ قبل نحو عشرة أيام. وقد نصت المادة الـ 24 من القانون على السجن لمدة عام وغرامة قدرها 45 ألف يورو لكل من يصور أفراد الشرطة أثناء قيامهم بعملهم. 

ورغم التطمينات الرسمية حول عدم استهداف الصحافيين، إلا أن السلطة الرابعة الفرنسية اعتبرت أن الغاية من هذه المادة منع الصحافيين والمواطنين من توثيق تجاوزات عناصر الشرطة ما يقيد حرية التعبير وحرية نقل المعلومة. 

تطور الأحداث في الأيام الماضية دفع بالمعترضين على القانون إلى التمسك بموقفهم. في الواقع، تصدرت المشهد الاعلامي حوادث وثقت استمرار لجوء أفراد الشرطة لاستخدام العنف على نحو مفرط وغير مبرر. بالتالي، بات بإمكان المعترضين، من أحزاب ومنظمات ونقابات ووسائل الإعلامية ونشطاء، المضي قدما بالمواجهة متسلحين بأدلة عملانية تدعم حججهم النظرية. 

آخر ما تم توثيقه كان الاعتداء الذي تعرض له المصور السوري أمير الحلبي خلال تغطيته لمظاهرة مناوئة لقانون الأمن الشامل يوم السبت 28 تشرين الثاني/نوفمبر في ساحة الباستيل. ففي نهاية ذاك النهار انتشرت صور للحلبي في مواقع التواصل الاجتماعي تظهر رأسه ملفوفاً بضمادات، كما بدا واضحاً تعرّضه لنزيف في الأنف. 

وعقب خروجه من المستشفى، تواصلت "المدن" مع أصدقاء الحلبي الذين أكدوا استقرار وضعه الصحي مضيفين أنه أفضل حال من يوم السبت، لكن سيتعيّن عليه اجراء فحوص  طبية بعد أيام للتأكد من عدم وجود كسر في الأنف. 

وردا على سؤال حول إمكانية لجوئه لمقاضاة المتسببين بالاعتداء عليه، أشار الحلبي في مقابلة مع قناة "فرانس 24" إلى أنه ما زال تحت وقع الصدمة من دون استبعاد هذه الخطوة. 

وأدى انتشار الصور في مواقع التواصل الاجتماعي إلى حالة من الغضب والسخط الشديدين في الوسطين الاعلامي والحقوقي. فأمين عام منظمة "مراسلون بلا حدود" كريستوف دولوار نشر تغريدتين لاستنكار الاعتداء على الحلبي لا سيما وأن هويته الصحافية كانت بارزة. وأضاف دولوار أنه يتعين على فرنسا، بلد حقوق الإنسان، حماية الحلبي وليس تهديد حياته بعدما لجأ إليها بحثا عن الأمان. 

وشرحت الصحافية غابريال سيزار تفاصيل ما جرى. فأوضحت أنها كانت برفقته الحلبي وعدد من المصورين مرتدين زياً يظهر هويتهم المهنية. وعند اقتراب عناصر الشرطة منهم صرخوا "صحافة صحافة" لكن ذلك لم يمنعهم من الاستمرار في تفريق المتجمهرين مستخدمين الهراوات والقنابل المسيلة للدموع، لتفقد سيزار أثر زميلها قبل أن تعود وتجده مضرجا بدمائه وقد أسعفه أطباء ميدانيون. 

وأضافت سيزار أن الشرطة الفرنسية لم تسهل عملية نقل الحلبي إلى المستشفى، إذ فرضت عليهم التنقل من مكان الى آخر سيراً على الأقدام نحو 20 دقيقة قبل مغادرتهم لساحة الباستيل. وكانت سيزار  أول من وثق الاعتداء على الحلبي من خلال الصور التي التقطها وانتشرت في الإعلام وعلى وسائل التواصل الاجتماعي مشيرة إلى أنه كان الوحيد، من بين أفراد مجموعتهم، الذي لم يرتدِ خوذة، أمرٌ لم يمنع الاعتداء عليه بهذه الوحشية. 

وقبل  وصوله إلى فرنسا في العام 2017 بصفته لاجئاً، شارك أمير الحلبي بتغطية المعارك والقصف الذي تعرضت له مدينة حلب حيث أصيب في العام 2012 قبل أن يفقد والده، المتطوع في الخوذ البيضاء، أمام عينيه في العام 2016. 

وبعد استقراره في فرنسا، شارك في عدد من المعارض إلى جانب عمله مع وكالة الصحافة الفرنسية و Polka Magazine كما حصد في العام 2017 جائزة "وورلد برس فوتو".

وفي مقابلة تلفزيونية اجراها مع شبكة Museum TV في العام 2017 أشار الحلبي إلى اتخاذه من المصور الفيتنامي نيك أوت نموذجا. فالصورة التي التقطها أوت للطفلة الفيتنامية كيم فوك، وهي تركض عارية بعدما احرقت نيران قنابل النابالم جسدها، لا زالت محفورة في الذاكرة العالمية إذ جسدت فظاعة الجرائم المرتكبة في فيتنام واعتبرت من الأسباب التي ساهمت بوضع حد لتلك الحرب. وأكد الحلبي رغبته في التقاط صورة مماثلة علها تضع حدا للحرب الدائرة في بلاده. 

وقد انتشرت في الأيام الماضية صور توثق اعتداء عناصر من الشرطة على المنتج الموسيقي ميشال زيكلير. الاعتداء بدأ في الشارع بعد محاولته الفرار منهم بسبب عدم ارتدائه كمامة ليلحقوا به إلى داخل الاستوديو الخاص به ويستمروا بضربه متوجهين إليه بألفاظ عنصرية كونه أسود البشرة. كما لم يتردد العناصر في استخدام قنبلة دخانية رغم ضيق المكان. وادعت الشرطة أنهم كانوا في حالة دفاع عن النفس، ما يعني انه لولا وجود كاميرات مراقبة كما مبادرة أحد الجيران لتصوير حادثة الاعتداء بهاتفه المحمول لوجدت الضحية نفسها داخل قفص الاتهام. ولم يمض يومان على هذه الحادثة حتى انتشرت فيديوهات لأفراد الشرطة وهم يزيلون مخيما للاجئين على نحو أدى إلى صدامات.  

وسط هذا التوتر سعت الحكومة إلى سحب فتيل الأزمة، وبناءً على توصية من وزير الداخلية جيرالد دارمانان، أعلن رئيس الوزراء الفرنسي جان كاستكس عن تشكيل لجنة مستقلة، مكونة من قضاة وحقوقيين، لإعادة النظر بالمادة الـ 24 واقتراح صيغة أخرى. 

إلا أن كاستكس سرعان ما تراجع عن قراره بعدما قوبل بمعارضة حادة فتحت الباب على أزمة سياسية - مؤسساتية جديدة. فالسلطة التشريعية هي المكلفة صياغة القوانين وفقا لما جاء على لسان ريشارد فيران (رئيس الجمعية الوطنية) وجيرالد لارشيه (رئيس مجلس الشيوخ) مضيفين أن دور هذه اللجان استشاري فقط. 

من جهتهم أبدى نواب "كتلة الجمهورية إلى الأمام" الموالية للرئيس ايمانويل ماكرون، امتعاضهم من تهميشهم في الفترة الماضية: بداية من الدور الذي لعبه وزير الداخلية في حرف القانون عن صيغته الأولية، ثم عدم اعطائهم وقتاً كافياً لمناقشته ما ولّد لديهم شعوراً بالرغبة في فرضه عليهم، ليطفح بهم الكيل مع منح تلك اللجنة المستقلة صلاحية تشريعية.  

حادثة الاعتداء على أمير الحلبي تكتسب إذا أهمية مضاعفة نتيجة الظرف العام. إذ توثق مرة جديدة تجاوزات عناصر الشرطة الفرنسية في وقت يسعى فيه البعض لتحصينهم. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024