دراما البيئة الشامية: أين شوارب محمود؟

عبد المجيد حيدر

الأربعاء 2019/09/04
أعلنت شركة "غولدن لاين" للإنتاج أنّها ستنفّذ جزءاً ثانياً من مسلسل وردة شامية لموسم العام 2020، مع تغيير الكاتب والمخرج، والاحتفاظ بالممثلين الرئيسيين. 

هذا المسلسل الذي ينتمي إلى نوع "الدراما الشامية"، كان قد لاقى متابعة واسعة، وتسابقت قنوات عديدة على عرض الجزء الأول منه. وهو مأخوذ عن قصّة مصرية عن القاتلتين ريّا وسكينة، وانتشرت تصريحات كثيرة ومتناقضة من صانعيه لتُثير موجة بلبلة ربّما هي جزء من خطّة الإعلان عن الجزء الثاني منه.

لكنّه في المحصّلة، واحد من عشرات مسلسلات ما اصطلح على تسميته "دراما شامية" ظهرت في السنوات الأخيرة بقصص وشخصيات متشابهة وحبكات مستهلكة ومكرورة، ويبدو أنّ صانعي هذا النوع مصرّون على الاستمرار في تقديم هذا النوع من الأعمال التي تجد سوقاً لها لدى قنوات تلفزيونية، ومعلنين يُرحّبون بأي فراغ درامي لا يحمل أي قيمة أو معنى إضافي يدفع للتفكير، ولا يُثير أي أسئلة.

بداية هذا النوع كانت في تسعينيات القرن الماضي، حين ظهر مسلسل سوري من 14 حلقة بعنوان "أيام شامية" للكاتب أكرم شريم والمخرج بسام الملا، بهدف تقديم برنامج يحكي عادات وفولكلور مدينة دمشق في بدايات القرن العشرين عبر قصة بسيطة. ويبدو أنّ القصة استهوت العاملين، فركّزوا عليها وتوسّعوا فيها، فتطور العمل من برنامج تلفزيوني إلى مسلسل درامي بيئي يحكي حكايتين بسيطتين. محمود الفوّال الذي احتاج نقوداً فاستدان من التاجر أبو عبده الذي أخذ رهناً غريباً هو بضع شعرات من شارب محمود، وحكاية سيفو الهاربُ من حارة أخرى قتل فيها جندياً عثمانياً فاستقبله زعيم حارة مسلسل أيام شامية.

خلال سرد هاتين القصتين البسيطتين، يتمّ المرور على الكثير من مفردات الحياة وطرق العيش في تلك الفترة بطريقة لافتة وذكية ولمّاحة، مع تطوّر في الحدث وتنوّع بين اليوميّ حيث تضيع شوارب محمود بين زوجتي أبي عبده، والوطني حيث تتضامن كل الحارة مع بائع البيض الفقير الذي اغتُصبت ابنته من عساكر الضابطية. 

نجح هذا المسلسل نجاحاً باهراً، ووجد فيه صانعو الدراما مكاناً آمناً لصبّ حكاياتهم، وكانت المسلسلات السورية قد بدأت الخروج من إطار القناة السورية شبه الوحيدة وصارت مطلوبة في الشاشات العربية. 

في الدراما العربية، وكانت مصرية وسورية في أغلبها في ذلك الوقت، كان متعارفاً على الهروب إلى التاريخ، أو إلى الواقع الافتراضي. حتى أن أغلب مسرحيات الأخوين رحباني كانت تدور في أماكن افتراضية. كذلك شهدت الدراما المصرية في ذلك الوقت الكثير من الأعمال التاريخية التي أبدع صانعوها في بناء درامي مهمّ، لتحرّرهم من الرقابة التي كانت تُدقّق في كل شيء مهما صغر شأنه في ما يخصّ الواقع المعاصر. 

وهكذا كان حال الدراما السورية حيث ظهرت مسلسلات اصطلح على تسميتها مسلسلات الفانتازيا، ومن أبرزها مسلسل وادي المسك لمحمد الماغوط وخلدون المالح، وغضب الصحراء لهاني السعدي وهيثم حقّي، ثمّ مسلسل البركان لهاني السعدي ومحمد عزيزية، وفي أوائل التسعينيات قدّم هاني السعدي مع المخرج نجدت أنزور مسلسل الجوارح الذي أعقبته سلسلة من النوع نفسه. 

لكن ظهور أيام شامية، جعل المنتجين وصانعي الدراما يرغبون في النوع ذاته، فهو نوع "محيّر"، لا واقعي ولا تاريخي، ولا فانتازي، فأسموه اصطلاحاً "دراما شاميّة". بعدها، ظهر مسلسلا "الخوالي" و"ليالي الصالحية" لأحمد حامد وبسام الملاّ، ليأتي بعدها مسلسل "باب الحارة" الشهير. 

خلال هذه الفورة للأعمال "الشامية"، ظهرت مسلسلات حاولت أن تؤرّخ وأن تكون أمينة للتاريخ، منها "خان الحرير" بجزئيه، لنهاد سيريس وهيثم حقي، عن مدينة حلب في خمسينيات القرن العشرين، و"الحصرم الشامي" بأجزائه الثلاثة لفؤاد حميرة وسيف الدين سبيعي، وهو عمل مأخوذ عن كتاب "حوادث دمشق اليومية" لأحمد البديري الحلاق، وقد أثار لغطاً كون كتاب البديري الحلاّق لا يُمكن الاعتداد به بوصفه مرجعاً تاريخياً موثوقاً ولا يجب الاعتماد عليه وحده لتقديم التاريخ. أو "أولاد القيمرية" و"طالع الفضة" لحافظ قرقوط وعنود خالد وإخراج سيف الدين سبيعي. 

لكنّ هذه الأعمال لم تُحقّق النجاح المأمول، عدا "خان الحرير" في جزئه الأول، لأسباب عديدة أحدها العرض الحصري لبعضها، مثل "الحصرم الشامي" الذي كان من إنتاج شبكة أوربت المشفّرة وهي لم تُفرج عنه للعرض العام حتّى الآن! أو ضعف إيقاع البعض الآخر وعدم تحلّيه بـ"توابل" اعتادها جمهور هذا النوع من الأعمال، فلم تحفل بقصص و"حكيات نسوان الشام" ومؤامراتهنّ السخيفة مثلاً، ولم تكن فيها شخصيات خفيفة وفارغة تنهمك في خلافات هي في حقيقة الأمر طرائف قديمة ومستهلكة.

خلال السنوات الـ15 الأخيرة، ظهرت عشرات الأعمال الشامية وبأجزاء متعدّدة، لاقى بعضها متابعة كثيفة من الجمهور، لكنّها كلّها مثل أجزاء "باب الحارة" الأخيرة، تدور في بيئة غريبة، وشخصياتها تبدو مرتبكة وغير حاضرة ولا حقيقية، وتُشبه عشرات الأعمال الأخرى. كذلك، بدأت تعلو الأصوات التي تعترض على تشويه صورة دمشق، وعدم الأمانة التاريخية في هذه المسلسلات. لذا لجأ بعض صانعيها إلى فبركة أحداث ومواقف لنفي التهمة عن أنفسهم، فأقحموا شخصيات نسائية متحرّرة، ورجالاً متعلّمين، لكنّهم لم ينتبهوا إلى أنّ أغلب الشخصيات المتعلّمة والمختلفة كانت لأدوار الأشرار. كأنّما هم يقولون إنّ الثقافة والعلم تجعلك شريراً ومستغلاً لأبناء حارتك ومتعاوناً مع الاستعمار.

حلقات "باب الحارة" في جزئه الثامن وما بعد، و"بيت جديّ"، و"زمن البرغوت"، و"رجال العزّ" و"طوق البنات" وغيرها الكثير، تبدو مستنسخة عن بعضها البعض بشكل يُثير الدهشة والاستهجان. تبدو جميع هذه الأعمال بقصصها الضعيفة والمتشابهة كأنّها محاولة للهرب من دمشق باختلاق فانتازيا شامية تفتقر إلى الحد الأدنى من المصداقية والواقعية. لكنّها تستمر لأنّ القنوات العارضة وشركات الإعلان ما زالت تطلب هذا النوع، وترى فيه شركات الإنتاج عملاً سهلاً بكلفة قليلة. فالملابس موجودة من أعمال أخرى، والاستديوهات بديكورات الحارة الشامية "الافتراضية" نفسها موجودة كذلك، والنصوص مستنسخة، والممثلون هم أنفسهم يصلحون لكل الحكايا حتّى أنّ بعض الممثلين يُقدّمون أدوارهم "المختلفة" في المسلسلات المختلفة بالملابس نفسها والماكياج! 

كثرت المسلسلات والحارات، وتعدّدت أشكال الشوارب على وجوه الرجال، لكن يبدو أنّ هذا النوع الذي اعتمد على شوارب محمود الفوّال لينطلق، قد أضاع هذه الشوارب، وما تزال صرخة الفنان خالد تاجا "أبو عبده" في مسلسل "أيام شامية": وين راحوا الشوارب؟ يتردّد صداها كأنّما هي تبحث عن الشام والشخصيات الشامية في ركام الأعمال المستنسخة والفارغة.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024