أرقصُ لأتلمّس صوابي

آية الراوي

السبت 2021/02/27
قهوة مظبوطة، قهوة زيادة، قهوة سادة. في مصر ترمز هذه الصفات إلى درجات تحلية القهوة. وراء الفناجين المعروضة في متجر في القاهرة، صورة لسامية جمال وحول خصرها خطوط ضوئية من نيون، ناتجة عن حركة خصرها والنور المنبعث من حزامها البرّاق وتقنية إبطاء التقاط النور في عدسة الكاميرا. تبدو في الصورة سعيدة، هادئة، على درجة من الحسيّة المرتاحة والمريحة، في وضعية رقص قد تبدو مغرية، لكنها تبعث فيّ شعوراً أحب أن أسميه "الارتياح في الجسد". ومَن يعرف سيرة سامية جمال، يدرك أن وراء هذه الصور التي تتفجّر بهجة وغواية، معاناة وإحباطاً وحزناً تخفيه بذلة الرقص وابتسامتها العريضة. لكن يبدو، على الأرجح، أنها في رقصها، كانت فعلاً سعيدة، وربما هي كانت سعيدة عندما كانت ترقص فقط.

وبعيداً من حياة النجوم وأسرارها، لجأتُ إلى الرقص في كل مراحل حياتي تقريباً، وتدربتُ على أشكال عديدة منه. لم أفكّر يوماً في احترافه، بسبب الضغط الاجتماعي ربما (كلمة رقاصة ما زالت تُستخدم كشتيمة في مجتمعاتنا)، لكني بحكم تدرّبي مع مخرجين ومصممي رقص، حدث لي أن شاركتُ في بعض العروض مشاركات خاطفة. ولم أستطع النظر إلى الرقص كمهنة، لأني دائماً كنت أراه وأعيشه كـ"حالة" وعلاج. لجأتُ إلى الرقص للحفاظ على قدرتي على هضم التجارب وتفريغ نفسي من الغضب، كي لا تثقلني الضغينة ولا أحتاج إلى الانتقام. كي أخرج من تيبّس الفكر اللولبي الذي يسعى إلى الزهد كمثال. وقد رقصت للخروج من أقسى مراحل الاستياء، ورقصت فرحاً واحتفالاً وترفيهاً وحباً. ورقصت بحثاً عن الله. وكل ذلك كان يحدث في المنزل، في المناسبات، في القاعة، في المسرح، في السرّ أو في العلن. امتنعتُ عن الرقص الشرقي بشكله المعهود، لأن هذا الفن لم يخرج في المجتمعات العربية كما الأجنبية، إلا قليلاً ومع حفظ الاستثناءات، من إطار الاستشراق والفانتازيا أو حتى الاستشراق الذاتي. يساعد في ذلك إقبال العديد على ممارسة الرقص كأداة للإغراء حصراً، وأيضاً استحواذ الراقصات الأوروبيات والأميركيات على هذا الفن واحترافه بكل تقنية وحرية، نظراً لقلّة محترفاته من نظيراتهن العربيات. فأدى ذلك إلى إدامة صورة اختصارية للرقص، وتأرجحه بين الشو- الإغراء من جهة (وهنا ندخل في عالم من التعرّي المجاني وعمليات التجميل والاستعراض التجاري المُبالَغ فيه)، وبين الرقص كفانتازيا بلهاء مسطحة من جهة ثانية، مفرغة من أي مضمون تاريخي اجتماعي، وسياسي فلسفي يعتبر الرقص وسيلة لفرض الذات كذات مستقلة، ولإعادة امتلاك الجسد ورفض إخضاعه إلى سلطة الأقوى ومعاييرها الذكورية والجندرية، وأيضاً الرقص كوسيلة لتجسيد تراجيديا الإنسان ومعاناته وأفعاله، بالمعنى الإغريقي المسرحي كما استعمله أرسطو. وليس عن عبث ألا يؤمن الفيلسوف نيتشه إلا "بإله يرقص"، وقد عُرف بحبه للمشي والرقص، كنظام أساسي لا بدّ منه. نظام لتدريب الإدراك الحسي وتنمية مهارات الإدراك والمسؤولية، بحيث يكون المرء قادراً على المشاركة بمسؤولية في خلق القيم، مدركاً لحركته وبالتالي لما هو عليه.

خلال الحَجر الأول، توقفت عن الرقص لعدم توافر المساحة وإقفال المعاهد، ومن باب الرفض لمتابعة الصفوف أونلاين، كون ذلك يتعارض بالنسبة إلي مع معدن الرقص نفسه كنشاط تشاركي تواصلي حسّي. أدى ذلك طبعاً إلى اهتمامي بشؤون عملية وإلى تحويل نشاطي،  بطبيعة الحال والحجر، إلى نشاط فكري رقمي. وقد لاحظتُ، بعد موجة شديدة من السجالات في المنصات الاجتماعية، أني دخلتُ في مرحلة من العقم الروحي، إذا ما صحّ التعبير، فكل شيء بات يحدث وراء الشاشات وأمامها، في دورة لا تنتهي من القراءة ثم التعليق ثم النقد ثم الهزء ثم الغضب، وتتكرر العملية يومياً في بحث مضنٍ عن المعنى، في ظل الكورونا والانعزال والمصائب والموت والاغتيالات والمرض. ومن كثرة اللجوء إلى هذا التجريد الرقمي، كمحفّز وحيد على التفكير والعمل، أصبحت غير قادرة على التفكير أو العمل، ولا حتى على الشعور. فحالما تسنّى لي المكان وسمحت الظروف، قررت العودة إلى هذا الكيان المتحرِّك المتنفّس النابض، والحاوي لكل ما يدور فيّ من شكوك وأفكار وتجارب وصدمات مكتومة. عدتُ إلى الرقص، فوجدتُ، أو تلمّستُ، طريق العودة إلى الصواب.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024