لغتنا الطّريحة تنادي مساطرَ "الأستاذ مندور"

بول قطان

الأحد 2022/01/09
عندما قرّر صاحبنا البيروتي أن يودّع العزوبيّة، أرسل إليّ بطاقة الدعوة إلى حفل زفافه مدبّجاً إيّاها بفرنسيّة أين منها استعاراتُ لامارتين ومرويّات بالزاك.

وحين أنعمت عليه السّماء بالذريّة الصالحة، لم يشأ إلّا أن يطلق على أولاده أسماءً من اشتقاقات عربية. صدمني في المرّة الثانية كما صعقني في المرّة الأولى. لكنّني وددت أن أعزّي نفسي، فقلت إنه لا شكّ يكفّر أباً، عمّا اقترفه عريساً بحق اللّغة العربية المسكينة، وقرّر أن يستعيد بعضاً من جذوره التّائهة.
لم أكن على حقّ. زرته بعد أعوام، وقد صارت ابنته الوحيدة في سنّ الدّراسة الابتدائّية، فإذ بها تطنبُ على مسمعي في التحدّث إلى أمها بفرنسية متقنة، لم تجرؤ كلمة عاميّة واحدة على التّوغل بين حروفها. والمفارقة أنها كانت تشكو لوالدتها من عذابها اللّامتناهي في كيفيّة "نحت" موضوع إنشاء بالعربيّة، حُكم عليها أن تقدّمه إلى معلمتها صباح اليوم التالي. جرّبَت الأم أن تحلّ المعضلة، فانتهزَت زيارتي واقترحَت على ابنتها أن أسعفها قليلاً في مهمّتها، لعلمها أنّني على بعض إلمام بفك طلاسم لغة المتنبّي.
ليتها لم تفعل. سُرعان ما أقبل الأحمر القاني على وجنتي الصّغيرة، فأرغَت وأزبدَت قبل أن تقفل عائدةً إلى غرفتها. تلعثمت الأم، ولم تدرِ كيف تعتذر مني عن فعلة ابنتها. وأحمد الله أنّ  اعتذارها كان بالعربيّة!    
استوطنتُ نيقوسيا الهادئة حتى البلادة طمعاً بفرصة عمل. وخِلت لدى وصولي إلى هذه البلدة الوسيعة أنّني لن أواجه صعوبة كبرى في التواصل مع سكّانها، انطلاقاً من اعتقاد لديّ أنّهم يجيدون الإنكليزية التي ورثوها من سلطة الانتداب البريطانية، كما ورث اللبنانيون الفرنسية من "أمّهم الحنون".

لكنّني لم أصادف سوى قلّة تختزن هذا الامتياز، جلّها من الجيل الشاب الذي نهلَ من لغة شكسبير زمن التّعليم المدرسي، وأتيح له الإلمام بها يوم قرّر الارتحال إلى المملكة المتّحدة طمعاً بكرم جامعاتها. أمّا الباقون فلا يأبهون. اكتفوا بلغتهم الأم، "يتصرّفون" بها ويضفون عليها نكهة محلية، حتّى لو كلّفهم ذلك سخريةَ أهل اليونان، "أرباب" اللّغة الأصليّة.
يكفي أن ترطُن بإنكليزيّتك السياحيّة أمام كُثرٍ من سكان نيقوسيا ليبادروك بالعبوس والتأفّف، شأنهم في ذلك شأن أهالي كسروان، الذين يظلّ ضيفهم "غريباً" حتّى لو أقام في ربوعهم دهراً. لكنّ الغريب أنّ بينهم من يُبدي إعجابه باللّبناني "المتعدّد الجنسيّة"، ويحسده على "قاموسيّته" وقدرته على الخروج من شرنقة لغته الأم، ليُلمّ بلغات أخرى. غير أنّ ما يجهلونه أنّه قد لا يستأهل هذه الميزة. 
قد يتكيّف اللبنانيّ مع كلّ ألسنة الكوكب، لكنّه يحرصُ على البقاء خصماً للغته العربيّة ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، ويتباهى بأنّه لا يجيد منها إلّا الفتات. يطأ عتبة المدرسة، فينهلُ ما لذّ وطاب من المعارف، وتبقى العربيّة عصيّة على  التآلف مع خلاياه الرماديّة. وحدَه "زكريّا" (زياد الرّحباني) كان "يركّ على العربي"، متجاهلاً اللّغات الأجنبيّة في مدرسته المجّانية، حتّى انتهى به المقامُ شبه جاهل، وسط "مجاهل" من زبائن أجانب، يرتادون حانة "ساندي سناك" في مسرحيّة "بالنّسبة لبكرا شو". 
من المدرسة إلى الجامعة، يتمدّد "الرّبع الخالي" بين اللبنانيّ ولغته، فتغدو مع الوقت "أثراً بعدَ عين"، لا يستعيدُ ذكراها الكاوية سوى في مناسبات معدودة، لعلّ أكثرها إحراجاً حين يهرعُ إليه أحد أولاده، راجياً إياه أن يسعفَه في فكّ طلاسم درس قواعديّ، أو في "اختراع" موضوع إنشاء، يُحاكي في ثقل ظلّه أستاذ المادّة البالغ السّماجة. أمّا التّرياق الذي لا مفرّ منه، فهو العثور على معلّم أو معلّمة للعربيّة، أكثر ظرفاً من ذاك الأستاذ المستبدّ، يتكفّل إعطاء بعض الدّروس المنزليّة للأولاد النّجباء، علّه يعينهم على تجرّع الكأس المرّة.
قد نسامحُ الشبّان والشابات اللّبنانيين من خرّيجي الاختصاصات العلميّة على قلّة درايتهم بـ"زواريب" لغتنا المسكينة، وعدم اكتراثهم بإجادتها مذ كانوا على مقاعد الدّراسة، كونَ هذه الزوّادة اللغوّية، أقلّه في عُرفهم، لن تقدّم أو تؤخّر كثيراً في تشييد ما يطمحون إليه من هرَم معرفيّ صلب، يتّكئون عليه في مسيرة مهنية يريدونها ناجحة.

ولكن، هل نغفرُ لـ"أهل البيت" ما يقترفونه من "خطايا" بحقّ لغتهم، هم المؤتمنون على صونِها ورفع شأنها؟ هل نغفرُ لمربّي أجيال، قيل إنّه انتزع شهادته في اللّغة العربيّة وآدابها بسهر اللّيالي، في حين لا يفقه شيئاً في أصول كتابة الهمزة، ويؤول به الأمر ملقّناً تلاميذه القاعدة الخطأ؟

هل نغفرُ لمحامٍ متمرّس في تدبيج المرافعات، تلاوتَه بياناً أمام عدسات وسائل الإعلام، وقد "نصَبَ" فيه على المبتدأ ولم "يرفع" من شأن الخبر، و"كسرَ" خاطر المفعول به، و"جرّ" المضاف إليه إلى حيث لا يرغب؟ هل نغفرُ لمذيعين ومذيعات، يختالون عبر الشّاشات كالطّواويس، ويمرّغون ليل نهار كرامة المفردات بوحولِ جهلهم، ولا من يرصُدهم ويصوّب اعوجاجهم في ما يسمّى "غرف التحكم"… غير المروريّ؟ هل نغفرُ لمراسلين ومراسلات، يدّعون الباع الطويل في "مهنة المتاعب"، في حين لا يقوون إلى الآن على تشكيل تقاريرهم بحدّ أدنى من الصحّة، ويصرّون على خَدش مسامعنا بما جادت به قرائحهم من ترّهات لغويّة؟.
تطول القائمةُ يا سادة، فيما لغتنا طريحةُ العناية الفائقة، ولا من يبادرُ الى إغاثتها. لعلّنا نحتاجُ إلى "أستاذ مندور" جديد، يعودُ به الكاتب مروان نجّار من أقاصي ثمانينات القرن الفائت، فتبرقُ عيناه ويرعدُ لسانه ذوداً عن لغة الضّاد، ويكسّر مساطره على رؤوس الجهَلة.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024