وثائقي"الجزيرة":كيف يستعد اليمين المتطرف الفرنسي للحرب؟

حسن مراد

الجمعة 2019/08/02
على مدار حلقتين، بثت قناة "الجزيرة" تحقيقاً بعنوان "جيل الكراهية"، وهو وثائقي عُرِضَ للمرة الأولى بالانجليزية وتمت دبلجته مؤخراً للعربية. 


طوال ستة أشهر، اخترق لويس (أحد صحافيي وحدة تحقيقات "الجزيرة") منظمة "جيل الهوية" في مدينة ليل (Lilleوهي منظمة يمينية متطرفة تُمارس وتُمجِّد العنف كأداة سياسية. احتك لويس بأعضاء المنظمة والمقربين منها، مُوثقاً بكاميرا سرية، كل ما يجري في أروقتها من حوارات وتبادل لأفكار عنصرية (لا سيما تجاه العرب والمسلمين منهم) إلى جانب ممارستهم لأعمال عنف واعتداءات لفظية. 

ركز التحقيق على طرح يمثل العمود الفقري لأيديولوجية المنظمة: تعتبر "جيل الهوية" نفسها في صراع عرقي - ثقافي يضع الغرب الأبيض المسيحي في مواجهة العرب المسلمين وعلى أساسه تنادي "بإعادة المهاجرين". فكرة غاية في الجنون على حدّ وصف ماتياس ديستال، وهو صحافي وباحث متخصص في شؤون اليمين المتطرف.

وفقاً لديستال، لن يتوقف الأمر (نظرياً) على طرد الأجانب، بل قد ينسحب إلى أجيال من الفرنسيين لمجرد أن لهم جذوراً أجنبية، بمعنى آخر ممارسة التطهير العرقي. ورغم استحالة تطبيق الأمر، نظراً للترسانة التشريعية التي تُحَصّنُ فرنسا، فإن مجرد البوح به يكشف مدى عنصرية أعضاء "جيل الهوية" ومناهضتهم للتعددية الثقافية. من هنا يتضح الهدف من تحريف اسم المنظمة إلى "جيل الكراهية" واستخدامه عنواناً للتحقيق.

ولتبيان مدى الكراهية التي يضمرونها، كشفت كاميرا لويس عن اعتداءات قاموا بها سابقاً وأخرى مستعدون للقيام بها ضد الجاليات العربية. فأحدهم أبدى حماسة لارتكاب، يوماً ما، مجزرة في سوق شعبي بمدينة ليل ترتاده الجاليات العربية.


لكن الهدف الأسمى من هذا التحقيق كان تسليط الضوء على العلاقة التي تجمع حزب التجمع الوطني (الجبهة الوطنية سابقاً كما ورد في التحقيق) بزعامة مارين لوبان، بمجموعات راديكالية على غرار "جيل الهوية"، وذلك لدحض الصورة الجديدة التي تسعى لوبان للظهور بها.

فمنذ أن خلفت والدها على رأس الجبهة الوطنية العام 2011، تبنت لوبان استراتيجية تُعرف بـ"نزع صفة الشيطنة" عن حزبها (Dédiabolisation). تهدُف هذه الاستراتيجية إلى تبديل الانطباع السائد لدى الرأي العام الفرنسي حول عنصرية الحزب وغوغائيته وديماغوجيته. لهذه الغاية أعادت تدوير برنامجها لتُبقي على الأفكار العنصرية نفسها، لكن مع تقديمها في قالب جديد حتى تظهر على هيئة رؤية اقتصادية-اجتماعية. كذلك، ما انفكت تنفي أمام الاعلام أي صلة لحزبها بالمجموعات اليمينية المتطرفة، وهو ادعاء كاذب وفقاً لما جاء في التحقيق. 

فداخل حانة Citadelle، مقر "جيل الهوية" في ليل، وثقت كاميرا لويس السرية اعترافات لأعضاء في المنظمة أكدوا فيها على تماهي حزب التجمع الوطني مع رؤيتهم، لا سيما لناحية إعادة المهاجرين. لكن أبرز ما رصدته الكاميرا، لا سيما في الجزء الثاني من التحقيق، هو تردد شخصيات نافذة  في الحزب إلى هذه الحانة كأعضاء في البرلمان الأوروبي مثل سيلفي غودين وكريستال لوشوفالييه أو آخرين مقربين من مارين لوبان كنيكولاس كروشيه (المحاسب المالي في حملتها الرئاسية) ومستشارها السابق فريدريك شاتيون. لا تعترض مارين لوبان على هذه الصلات طالما ظل الأمر بعيداً من الاعلام.

اللجوء لأسلوب الكاميرا السرية بات القاعدة في هذا النوع من التحقيقات الاستقصائية لتعرية حزب التجمع الوطني، وتبيان أن استراتيجية "نزع صفة الشيطنة" ليست سوى للاستهلاك الاعلامي. فالحزب يحرص بشدة على تلميع صورته في الاعلام، لذا لجأت محطات فرنسية إلى اختراقه بالأسلوب نفسه (صحافي مزود بكاميرا سرية ينتسب للحزب أو لإحدى المنظمات الراديكالية ويوثق على مدار أشهر ما يدور في الغرف المغلقة)، استراتيجية أتت بثمارها فلم تعد العلاقة بين التجمع الوطني والمجموعات المتطرفة سراً.

لكن السؤال الذي يفرض نفسه: لماذا إصرار لوبان على الحفاظ على شبكة العلاقات هذه؟ ما الفائدة التي ستجنيها بعدما حولت حزبها إلى ماكينة سياسية تسعى للوصول إلى السلطة اعتماداً على صناديق الاقتراع؟ هنا تكمن القيمة المضافة التي حملها تحقيق "الجزيرة".

الجواب أتى على لسان باسكال جوا، عضو حزب التجمع الوطني. وفقاً له، اذا ما أصبحت مارين لوبان رئيسة لفرنسا، فإن تطبيق برنامجها سيؤدي إلى تمرد في الشارع، تمردٌ وصفه جوا بالحرب الأهلية. هنا تبرز الحاجة لوجود ذراع ميلشياوي مؤازر لحكومة اليمين المتطرف عبر "اعتلاء الشبابيك واطلاق النار على المتمردين" على حد قوله.

ما يؤكد جدية هذا السيناريو، كلام جوا عن امتلاكه وأقرانه (بالتأكيد على نحو غير قانوني) لأنواع متعددة من الأسلحة كما صلاتهم بتجار السلاح. هذه الاعترافات تشير إلى نية مُبَيّتة لاستخدام مستوى من العنف لا يتناسب وردّ فعل الشارع، وهو ما سترفض قوات الشرطة ممارسته، فاستخدامها للعنف يتم ضمن قواعد وأصول تتناسب مع حجم "التهديد المحتمل" وليس بعشوائية أو العنف لمجرد العنف. بمعنى آخر، قد يسعى حزب لوبان إلى خلق "دولة بديلة".

طبيعة العلاقة بين التجمع الوطني وهذه المجموعات الراديكالية لم تُعرض في السابق على الشاشة بهذا الوضوح. على سبيل المثال، في تحقيق حمل عنوان "الوجه الخفي للجبهة الوطنية" أعدته محطة C8 العام 2017، قال مسؤول الجبهة الوطنية في مدينة نيس (Nice) امام الكاميرا السرية (بما معناه) "حين تقوم الثورة، هؤلاء هم من ستجدهم في الصفوف الأمامية" (الدقيقة 42:07 من التحقيق) في اشارة إلى إحدى المنظمات الشبيهة بـ"جيل الهوية"، لكن من دون تحديد ماهية وطبيعة هذه "الثورة".

أفرزت الانتخابات الأوروبية الأخيرة، واقعاً سياسياً جديداً على المستوى الداخلي الفرنسي، تلخَّص في تحجيم كل الأحزاب المعارضة من اليمين التقليدي والحزب الاشتراكي وأقصى اليسار لصالح اليمين المتطرف.

من مصلحة كلٍ من ماكرون ولوبان الحفاظ على هذا الستاتيكو، إذ يسمح للرئيس الفرنسي باللعب على وتر التهويل من وصول اليمين المتطرف إلى السلطة على مبدأ: ليس هناك من بديل سوى اليمين المتطرف. فيما يتيح للأخيرة الاستئثار بجبهة المعارضة، مع الأخذ في الاعتبار أن ثلاث سنوات ما زالت تفصل فرنسا عن الاستحقاق الرئاسي المقبل، واحتمال خلط الأوراق ما زال قائماً. 

استناداً الى الواقع الراهن تُعوّل لوبان على انتخابات العام 2022 للوصول للإليزيه لا سيما مع الكم الكبير من الأزمات السياسية والحكومية التي تلاحق ماكرون. وعليه، لن تهز كاميرات الصحافيين السرية، المصالح المشتركة التي تجمع حزب التجمع الوطني بهذا النوع من التنظيمات، إذ من المحتمل أن تستثمر لوبان تقاطع الرؤى هذه، لتحولها إلى احدى الركائز التي ستستند اليها لإدارة شؤون البلاد.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024