هكذا تراقب إسرائيل الإعلام الفلسطيني.. ثم تبتزه

أدهم مناصرة

الجمعة 2018/08/10
يخضع كل فلسطيني في الضفة الغربية لسيطرة سلطتين تتحكمان معاً في كل مناحي الحياة منذ العام 1994، هما سلطة الاحتلال الإسرائيلي والسلطة الفلسطينية. لكن الأمر يصبح أفدح عندما يتعلق بظروف الإعلام، فالرقابة الإعلامية في الضفة الغربية تنبع بالتوازي من جهتين هما، السلطة وإسرائيل، إن لم يكن أكثر. الأمر الذي يجعل واقع الإعلام في الأراضي الفلسطينية وظرفه، مختلفاً إلى حد كبير، مقارنة بالمحيط العربي على الأقل.


وتعكف "الإدارة المدنية" التابعة لجيش الاحتلال على عملية متابعة ومراقبة حثيثة على مدار الساعة لكل صغيرة وكبيرة في وسائل الاعلام الفلسطينية بمختلف أشكالها، سواء كانت مرئية أو مسموعة أو الكترونية ومتعددة الوسائط. كما أن الإذاعات الفلسطينية، تحديداً، تحصل على تردداتها من الجانب الإسرائيلي. وسرعان ما يتم اغلاق أي راديو يتقاطع بثه وتردده، أو يشوش على أي راديو آخر تابع لمستوطنة او حتى موجود داخل الخط الأخضر.

اللافت أن أحد الصحافيين الإسرائيليين قال ذات مرة أن هناك برنامجاً تكنولوجياً اسرائيلياً يسجل ويوثق كل ما يخرج على أثير الاذاعات الفلسطينية، أي أن كل مادة صوتية خاصة بأي راديو أو تلفزيون، تكون في حوزة اسرائيل من دون الحاجة لأخذها من مصدرها الأصلي في الإذاعات.

وبناء على بحث معمق أجرته "المدن"، تقوم مؤسسات وجمعيات إسرائيلية "خاصة" بدور رقابي مواز، في حال تقصير أجهزة الاحتلال "الرسمية" في عملية مراقبة مضامين الإعلام الفلسطيني. ومنها مؤسسة "ميمري" وكذلك "الجمعية الإسرائيلية لملاحقة التحريض"، وأخرى مخصصة لتوثيق ما يكتبه الفلسطينيون في "فايسبوك". ومن نافل القول أن عمليات انتقام متكررة طاولت صحافيين فلسطينيين ومؤسسات إعلامية في الضفة الغربية، بناء على عملية الرصد التي تقوم بها هذه المؤسسات الإسرائيلية، إلى جانب الأجهزة الرسمية.

في السياق، يؤكد المتخصص في الشأن الإسرائيلي، عادل شديد، أن الاعلام الفلسطيني المرئي والمسموع، الذي نشأ مع تأسيس السلطة العام 1994 وفق اتفاق "أوسلو" المُبرم بين منظمة "التحرير الفلسطينية" وإسرائيل، تتم متابعته ورصده من أجهزة إسرائيل الأمنية المختلفة. ففي داخل كل جهاز أمني، دائرة متخصصة في الرقابة على هذا الإعلام. ويضيف في حديث إلى "المدن": "هذا دليل واضح على مدى إدراك الدولة العبرية لأهمية فصل وعزل الإعلام الفلسطيني عن سياقه الوطني، بل وإجباره على أمرين؛ إمّا تحييده عن دوره الوطني والتركيز على مضامين لا تفيد الوعي الجمعي، أو أنه ينشر محتوى منسجماً مع الرؤية الإسرائيلية، ولو كان ذلك بطريقة مبطنة ومتدرجة".

والحال أن إسرائيل أوصلت عملياً، رسالة، لكل الإعلام الفلسطيني، أنها الجهة الوحيدة التي تقرر بشأنه وبأمره، لا السلطة. والدليل على ذلك أن الاحتلال اقتحم، خلال السنوات الأخيرة، العديد من الإذاعات ومحطات التلفزيون وشركات الإنتاج في مناطق السلطة الفلسطينية، وأكثر من مرة، إذ قام بإغلاقها بالشمع الأحمر بحجة نشر مضامين تحريضية ضد إسرائيل. وذلك في خطوة تحرج السلطة الفلسطنية، وتنتهك سيادتها، وتُذكّرها ألف مرة أنها بلا حول ولا قوة، فهي لا تستطيع أن تحمي الإعلام الفلسطيني ولا الصحافيين في قلب أراضيها.

ولا تكتفي "الإدارة المدنية الإسرائيلية" بمراقبة وسائل الإعلام الفلسطينية، بل تتواصل هاتفياً مع إدارات المؤسسات الإعلامية في الضفة الغربية، وحتى في قطاع غزة، لتحذيرها من نشر بعض المضامين، بل ولتطلب منها تعديلها. وفي أحيان أخرى، تخلق "الإدارة المدنية" قناة للتواصل المستمر مع صحافيين وإعلاميين، وربما إداريين في مؤسساتهم، من أجل نشر أخبار تريدها الدولة العبرية.

ورصدت "المدن" واقعة تتعلق بنبأ أذاعته أكثر من وسيلة إعلامية فلسطينية حول إغلاق الاحتلال لأحد الحواجز الرئيسية قرب رام الله، قبل فترة، فما كان من قيادة "الإدارة المدنية" التابعة لجيش الاحتلال إلا أن اتصلت بها لتعبّر عن انزعاجها من "نشر خبر غير صحيح من شأنه أن يُربك المواطنين"، ثم طلبت أن يُصَحَّح الخبر حتى لو بقيت كلمة "احتلال" في متن الخبر.

ليس هذا فحسب، بل يعلو سقف الطموح الإسرائيلي كالعادة. فيبادر مسؤول في مكتب منسق حكومة الاحتلال في الأراضي الفلسطينية، إلى التواصل مع بعض وسائل الإعلام ليبحث إمكانية إجراء مقابلة معه للحديث عن أمر خدماتي ومُلحّ للسكان الفلسطينيين. لكن هذه الوسائل الإعلامية قابلته برفض الطلب، فهي تحرص على عدم منح مساحة للاحتلال ستكلفها ثمناً باهظاَ، على المستويين الوطني والمهني.

وتذهب المؤسسة العسكرية الإسرائيلية إلى ابتزاز وسائل الإعلام الفلسطينية. فمثلاً، تنشر صحيفة "القدس" المحلية، إعلانات عن عطاءات لصالح "الإدارة المدنية الإسرائيلية"، ما يثير غضب وانتقاد القرّاء الفلسطينيين. لكن إدارة الصحيفة تبرر ذلك بأنه ليس خيارها، بل هو شرط اسرائيلي بأن تنشر اعلانات صادرة عن الحاكم العسكري الإسرائيلي، في مقابل استمرارية إصدار الصحيفة من داخل مدينة القدس منذ احتلالها العام 1967. كما يجبر الشرط الإسرائيلي، الصحيفة أيضاً، على عدم وضع كلمة "احتلال" في أخبارها، وإنما تكتب "الجيش الإسرائيلي" بدلاً من "قوات الاحتلال" أو "جيش الاحتلال".

إلى ذلك، تلجأ المؤسسة العسكرية الإسرائيلية إلى استمالة بعض الصحافيين والإعلاميين الفلسطينيين وعمل علاقات معهم، تحت عنوان واهٍ مفاده "مابدي منك شي"، ويتم اغراؤهم ببعض الامتيازات الهامشية، عبر منحهم تصاريح بمدد طويلة تمكنهم من دخول إسرائيل أو السفر إلى العالم الخارجي عبر مطار بن غوريون. ثم، بموازاة ذلك، يطلب المسؤول العسكري الإسرائيلي من أولئك الإعلاميين، نشر مضمون أو خبراً ما، أو يستفسر منه أحياناً حول "هموم السكان الفلسطينيين"، وكيف يفكرون إزاء قضية معينة.

في السياق، واظبت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، خلال السنوات الأخيرة، على مراقبة ما يُنشر أيضاً في مواقع التواصل الإجتماعي، وبالتحيد "فايسبوك"، لمنع ما تسميها "العمليات الفردية" التي لا يُمكن التنبؤ بوقوعها. فتقوم باصطياد كلمات مفتاحية معينة من أي منشور في الموقع، ثم يُعتقل الفلسطيني صاحب المنشور ويُحكم عليه "إدارياً".

الغريب هنا، أن الأمن الإسرائيلي يميز بين فلسطيني وآخر في عملية الإدانة، بناء على ما يُكتب في "فايسبوك". فكأثر من مرة، تمت إدانة فلسطيني بسبب منشور ما، فيما لا يتم التعرض لآخر، حتى لو كتب المضمون ذاته. ولربما يكمن السبب في عملية بحث تقوم بها سلطات الاحتلال عن كل فلسطيني ومرجعيته الأيديولوجية والوطنية. فهناك قواعد بيانات "دقيقة" في حوزة الأجهزة الإسرائيلية عن كل فلسطيني، قد لا تكون متوافرة حتى للأمن الفلسطيني.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024