الموزعون والقنوات: لا فقر ولا حرية

هلال شومان

الثلاثاء 2015/05/05

يفضح الخلاف المستعر بين القنوات التلفزيونية اللبنانية وموزعي الكابل، التهالك العام الذي أصاب الإعلام التلفزيوني المحلي.

فبتحييد نقاش الملكية الفكرية الذي تتسلّح به القنوات (وهو نقاش لا يجب أن يكون مقدسًا، وليس مفهومًا إسباغ القدسية عليه في ظل نقاشات عالمية ليست جديدة حوله)، يجد المتابع نفسه إزاء تأميم خجول لتجربة المشاهدة من قبل قنوات التلفزيون الخاصة نفسها، في محاولة منها لاستنساخ ما يمكن تسميته بـ"تلفزيون الشعب". فالمشاهد اللبناني سيدفع للقنوات الخاصة (وتلفزيونه الرسمي؟) التي لا تفصح له عن أرباحها ولن يحصّل منها شيئًا. إنه مدفوع لتلبية نداء الواجب الإعلامي/الوطني ليحول دون انهيار مشروع الاعلام التلفزيوني اللبناني، بلا حقوق تذكَر.

منحى الخلاف هذا، يعيد إلى الأذهان نشأة المحطات التلفزيونية الخاصة نفسها التي تُشابه نشأة شركات موزعي الكابل. والفرق بين النشأتين، أن القنوات الخاصة استفادت من فوضى الحرب، بينما احتمت شركات إعادة توزيع الكابل بانكشاف دولة الطائف قبل وبعد رفع اليد عنها. وإذ تبدو شركات توزيع الكابل -للوهلة الأولى فقط- تجمعًا موازيًا للدولة، تلعب القنوات الخاصة دورًا مُورس عليها في التسعينات عندما أجبرَت أن تتقونن ضمن مشروع دولة الطائف، فمضَت تحتمي بالمال السياسي والإعلاني، لتأتي أخيرًا وتطلب قوننة نشاط الموزعين، وهو نشاط أفرزه التغير الذي أصاب تجربة المشاهدة التلفزيونية (تقنيةً واستخدامًا) وقصور الدولة.

لكنّ متابعة نشاط موزعي الكابل عبر السنوات، وحجبهم لقنوات أو تشويشهم على برامج بعينها، يؤكد أن نشاطهم  ليس مستقلًا وموازيًا كما يبدو. والمدح الاعتباطي لهم بوصفهم بالفقراء، لن يحجب حقيقة أن نشاطهم يقع في صلب المنظومة الإعلامية/السياسية اللبنانية، وأنّ توزيعهم للقنوات التلفزيونية ليس أكثر من خدمة موازية أخرى تنضم إلى الخدمات الموازية الاخرى في البلد (تجمع أصحاب المولدات الكهربائية مثلاً).

فانتفاضات الموزعين لم تكن تحدث إلا لأسباب ربحية بحتة أو بتنشيط سياسي. ومع أننا لا نعرف تفاصيل الخريطة الاجتماعية التي تتوزع عليها وبينها شركات توزيع تبدو في ظاهرها أهلية الطابع، يمكن القول إننا أمام أصدق تمثيل لعلاقة الأهالي وصغار المستثمرين بالطبقة السياسية من جهة، وعلاقة هؤلاء المستثمرين الصغار السلطوية بأهالي آخرين، وهذه العلاقة الأخيرة تقارب أن تكون مثالًا مذهلًا لحكم الحارات في المسلسلات التلفزيونية التي توزع بثها هذه الشركات.

أما مشروع الإعلام اللبناني التلفزيوني الذي يُطلَب من المواطن اللبناني حمايته، فتلقى ضربته الأولى بعد التقنين الأول من دولة الطائف، بدفن مشروع مدينة الانتاج الإعلامي الذي سمعنا عنه أواخر التسعينات. ومع وضع المشروع موضع التنفيذ في دول أخرى، واستفحال حدة الخلاف بين أركان الحكم اللبناني وقتها، أكملت التلفزيونات اللبنانية تحاول منافسة صعود القنوات الخليجية أولاً، ثم القنوات المتخصصة ثانيةً، محتميةً بمحليّتها.

ومع تغير الخريطة الإعلامية الفضائية وظهور تجمعات خاصة أخرى، عمدت القنوات اللبنانية إلى الشراكة مع بعض القنوات الفضائية المصرية والخليجية لعرض برامج لم تعد قادرة على تغطية كلفة إنتاجها في التوقيت نفسه. لكنّ صعود إعلام الويب، وسرعة الخبر فيه، وتغيّر تجربة المشاهدة نفَى حتى مثل هذه الامتياز المحلي. وبالطبع، فإن سوء خدمة الانترنت عند المستخدمين اللبنانيين لم يساعد القنوات على تقديم خدمات شبكية على غرار قنوات فضائية غير لبنانية.

الموت السريري الحالي للإعلام التلفزيوني اللبناني الخاص، يمكن ردّه إلى ضمور السياسة اللبنانية، وإلى تجمعات مافوية لحفنة تفتقر للموهبة حتّى. أما المطالبة بدعم هذا الاعلام للمحافظة على النموذج الريادي للإعلام التلفزيوني الحر،ّ فهذا خطاب استنفد محتواه، مع محافظة القنوات الخاصة على علاقاتها السياسية بمن يُتّهمون باغتيال إعلاميين عملوا في مؤسساتها ذات يوم.

وهكذا، لا يبقى في الإعلام التلفزيوني اللبناني سوى بضعة أفراد واعين لسياسات مؤسساتهم ويحاولون قدر الإمكان أن يمرروا ما يمكن لهم تمريره من دون أن يتورّطوا في لعب دور الإعلامي الموظّف. ورغم ابتذال مصطلح "الفردية" ووضعه في خصام مع السياسة من قبل ناشطين، فإنّ التنقلات المهنيّة للإعلاميين الأفراد/المسيّسين -في آن- على إيقاع التقلبات والاستقطابات السياسية في وسط محدودة خياراته الوظيفية، كفيل بأن يكشف تهافت خطاب "إعلام القضية" الذي تسوّقه القنوات في خلافها الداخلي مع الموزّعين.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024