"كل السوريين مخابرات"

عدنان نعوف

الخميس 2018/08/09
إذا كان تناسخ الأرواح حقيقةً، وكان مَبنيّاً على التشابه الداخلي والنفسي، فأعتقدُ بأنني سأتحوّل بعد الموت إلى قنبلة! غير أنّي لن أكون وحيداً في ذلك، بل برفقة الكثير من أقراني القنابل؛ أقصد السوريين.

هكذا شرّعتُ باب الخيال والاحتمال وأنا أرى كيف أصبح السوريّ كائناً مهجوساً بصورته في عيون الآخرين، يَعيشُ ترقّباً دائماً مصحوباً بإجابات جاهزة عن الذات. وبالنتيجة يغدو قنبلةً محشوّة بالقهر والغضب، لا تحتاج سوى إلى سؤال أو توقّعٍ يُشعل الفتيل.

(مُحتاج، انتهازي، مشروع  إرهابي، فاعل خير يعثر على آلاف اليوروهات..) هذه الصُوَر وأكثر صنعت فضاءً مُسَوّراً بالتوقعات المسبقة عن السوريين، والموقف منهم. وبينما تمرّدت بعض مجتمعات اللجوء على هذا التنميط، بقيَ هناك ما يستعصي على التغيير، وتحديداً ما تجذّر في الوعي وارتبط بمراحل زمنية سابقة.

"أنتو السوريين كلكن مخابرات!" رَمَاني صديقي اللبناني "مالك" بهذه العبارة خلال إحدى نقاشاتنا، فنزلتْ على رأسي كالصّاعقة، رغم قناعتي بأنها جاءتْ على سبيل الدعابة المجرّدة من أي نيّةٍ للإساءة. 

لقد أدركت حينها أن تداعيات اللجوء والحرب على صورة السوريّ ربما ترتسم وتزول، أما الوشم القديم فلا يمكن أن يُمحى بعد الخروج من "السجن الكبير"، خصوصاً إذا كان الواشِمُ هو نظام "شعب واحد في بلدَين".

عَلَتْ ضحكاتنا أنا و"مالك" كأنها تسكبُ الماء على فتيلِ غضبٍ محتمل. كنّا متفاهِمَين وفاهِمَين جيداً لإشكالية العلاقة بين بلدَينا تاريخياً، وتأثير فترة الوصاية الأسديّة على لبنان، والتي أدت إلى صوغ سرديّة "السوري المخبر" بين اللبنانيين.  

كان ممكناً أن أرُدَّ على مزحة صديقي عبر تعييرهِ بتواطؤ شخصيات لبنانية مع النظام السوري مخابراتياً، أو أن أشرح له كيف وَقعَ السوريون ضحايا "جمهورية الخوف". لكن وبدلاً من أن أدفعَ التهمة عني، قُمتُ بارتدائها وكأني أتأنقُ بها، فقد استيقظ في داخلي وَعيٌ من نوع آخر.

قبل الثورة السورية وموجات اللجوء، توزّع السوريون على اختلاف مشاربهم ضمن هذه الخانات (مواطن عادي يعيش على مبدأ "ما دخلنا"، مواطن عاقل يُخرِس النقاشات السياسية المحيطة حرصاً على السلامة العامة، مُعتَقَل بسبب وشاية أو نشاط معيّن، "فَسَّاد" أو كاتب تقارير مدني، عنصر أمن يتبع لأحد الفروع). 

في مرحلة ما بعد اللجوء، تحرّرَ السوريون في بلاد الشتات من تلك التصنيفات المحليّة، فكانت النتيجة أن أصبحوا طرفاً في معادلات "مخابراتية" جديدة؛ ليست ذات طابع أمني بالضرورة.
تغيّرت الأحوال وبتنا نتعامل مع دُول وسفارات ومنظمات إنسانية ولاإنسانية، جميعها تشتغل على الملف السوري، وللمصادفة فإنها تعمل "لصالح السوريين" مقابل لا شيء، سوى المعلومة!

سيُقال إن المقاربة فيها شي من التهويل، وأن تشبيه الجهات الدولية على اختلاف أدوارها بالمنظومة الأسدية هي مبالغة. غير أنّ هذه المقارنة لا تستند إلى وجود آليات عمل متشابهة وإنما إلى فكرة "أهميّة المعلومات" بالدرجة الأولى.

لا شك أنّ من حقّ مُختلف الأطراف جَمْعُ بياناتنا حرصاً منهم على "ضبط الوضع"، وخوفاً من "تسلل الإرهابيين"، وتسهيلاً لوصول "المساعدات إلى مستحقيها".

هي أسئلةٌ وإجابات لا تخرُج عن كونها إجراءات روتينية نظريّاً. أما على الصعيد العملي فكثيراً ما نكون أمام مقايضة غير معلنة تتدرّج مستوياتها حسب الجهة وطبيعة "البيانات". 

في الأحوال العادية يقوم اللاجئون السوريون بفعل "الإخبار" البريء حين يقدّمون جميع التفاصيل عنهم - بينها ما يتعلق بمعتقداتهم وطوائفهم وتوجهاتهم الفكرية - مقابل منحهم الأمان والاستقرار النسبي، دون أن يتساءلوا عما ستفعله هذه الدولة أو تلك بمعلوماتهم (هل ستُعطى للروس مثلاً؟). 

وفي مستوىً أعقد، كلّما سعى اللاجىء للعيش في ظروف أفضل، والتمسك بـ "حضن الشتات"، ازداد حجم "الملف" الذي ينبغي عليه تقديمه إلى "المعنيين"!

فعلى سبيل المثال يَستلزم الحصول على حق اللجوء أو تجديد الإقامة أن يعطيَ السوريّ تفاصيلَ كثيرة فيها ما هو خطير أو مُحرِج. ولا يُستثنى المضمون السياسي والأمني هنا، وبنسبة كبيرة ما يتعلق بنظام الأسد باعتباره سبباً أساسيّاً في عملية التهجير.

وإلى جانب ما يُورِدهُ غالبية اللاجئين من وقائع وحقائق خلال "المقابلات" ، فإن الأمر لا يخلو من اتباع البعض سلوكيات "إخبارية" تذكّرنا بنموذج "الفسَّاد" المتسلّق؛ الحالم بالأفضل على حساب الناس. 

ومِن هؤلاء مثلاً مَن لا يتردّد في سرد قصص واقعية وخيالية تلعب على وتر (أقلية، أكثرية) وتطعَن بأحد المكونات الطائفية السورية، سعياً منه لنيل مكاسب أكبر وتحسين وضعه القانوني أو السكني أو ما شابه. وهناك أيضاً مَن يُضخّمون أحداثاً وقعت معهم ويُسبِغون عليها هالةً ملحميّة، أو يَنسجون "مغامراتٍ" حول استهدافهم من قبل النظام أو "المتطرفين".

لكن والحال كذلك، أليس الأجدى اتباع تكتيك "مو كل أصابيعك متل بعضها" لنفيِ تهمة ظالمة عن شعب بأكلمه؟ بالطبع لا! فلا نفع من ذلك عندما تُبنى "الأساطير" على ردود فعل جمعية أو على حساسيات متراكمة كما في مقولة "كل السوريين مخابرات"، فهي لا تُعنى أساساً بمطابقة الواقع وتوزيع المسؤوليات وتحديد "المذنبين" قانونياً وأخلاقياً. لذا فالأفضل وضع الأمور في سياقها ولو مجازيّاً.

نعم! كل لاجىء سوري هو مُخبِرٌ عن واحدةٍ من أسوأ جرائم العصر. وهو بشكل أدقّ "حكواتي الألم والمأساة" الحالم بالوقوف على يابسة.

تلك هي حقيقتي التي أعِيها. وحين أقابل أشخاصاً كصديقي "مالك" لن أقاوم محاولة إلباسي صورةً نمطية، بل سأصنع من السرديّة حكاية، ومن المشهد مسرحيّة، ومن "الكائن المخابراتي" مُخبراً يتفنن في نكىء جراحه وتحويلها إلى معرض! 

بهذا الشكل سأضمن ألا أعيش في تشنجٍ دائم أو قابليّةٍ للانفجار، بل سأتحوّل إلى كِتاب قصصٍ مصوّرة، ولن أنتظر فرضيات ما بعد الفناء.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024