مفاوضات الناقورة تستحضر 17 أيار: الطاولة، الصورة، الوفد

قاسم مرواني

الخميس 2020/10/15
القرار بإبعاد الإعلاميين عن مركز المفاوضات غير المباشرة التي عُقدت في خيمة في باحة مبنى الأمم المتحدة في الناقورة، الأربعاء، أعاد الى الأذهان المفاوضات التي عُقدت في العام 1983 بين اللبنانيين والاسرائيليين، والتي كان الإعلاميون حاضرين فيها. ففي 28 كانون الثاني/ديسمبر 1982، بدأت المفاوضات اللبنانية الاسرائيلية المباشرة وأفضت لاحقاً إلى إتفاق 17 أيار 1983 الذي أسقطته القوى اللبنانية المدعومة من سوريا، وأبرزها "حركة أمل" و"الحزب التقدمي الاشتراكي" في ما عُرف لاحقاً بانتفاضة 6 شباط 1984.

ظروف المفاوضات حينها كانت مختلفة عن ظروف اليوم، مع تقاطعات. فمن حيث الشكل، كانت مفاوضات مباشرة، غابت عنها الأمم المتحدة وحضر الوسيط الأميركي، أما اليوم فهي مفاوضات غير مباشرة، جرت في مبنى الأمم المتحدة وتحت علمها، وأيضاً بحضور الوسيط والمسهل الأميركي.

فقد جرت جولات التفاوض العام 1983 بين خلدة وتحديداً في فندق "ليبنانون بيتش"، وبين مستعمرة كريات شمونة ومدينة نتانيا الساحلية في الأراضي المحتلة. الوفد اللبناني انتمى أعضاؤه الى مختلف الطوائف اللبنانية، برئاسة السفير أنطوان فتال سوريّ الأصل. أما الوفد الإسرائيلي فقد كان برئاسة ديفيد كيمحي، الذي تواجد في لبنان خارج جولات التفاوض، في مراكز الجيش الإسرائيلي في بيروت.

ورغم وجود قوات للأمم المتحدة "اليونيفيل" في لبنان، إلا أنها غابت عن المفاوضات التي كانت برعاية الأميركيين، إذ كان الوفد الأميركي برئاسة السفير موريس درايبر، وسط حضور قوي للمبعوث الأميركي فيليب حبيب. 

الصحافي اللبناني محمد شقير الذي كان مراسل جريدة "السفير" في ذلك الوقت، وغطى جزءاً كبيراً من هذه المفاوضات، يشير في حديث إلى "المدن" إلى أن جزءاً من لبنان حينها "كان محتلاً من قبل الإسرائيليين، جرت أولى جلسات المفاوضات في خلدة وسط إجراءات أمنية مشددة حيث تحولت خلدة إلى منطقة عسكرية". فـ"الطوافات الإسرائيلية كانت تغطي الأجواء والزوارق تجوب البحر، أتى الوفد الاسرائيلي في طوافة عسكرية ودخل إلى قاعة الاجتماعات". 

على عكس المفاوضات اليوم، فقد كان مسموحاً للإعلاميين التغطية من قرب. يقول شقير: "دخلنا إلى قاعة التفاوض، حيث كان الوفدان قد جلسا مسبقاً إلى طاولة المفاوضات ولم يتسن لنا التقاط لحظة لقائهما". وحيث أن الاسرائيليين كانوا متواجدين في لبنان كجيش احتلال، فقد انتهز العديد من الصحافيين الفرصة لاستجواب بعض القادة حول مسار المفاوضات.

كانت طاولة المفاوضات بداية على شكل حرف U بالإنكليزية، وتحولت إلى مثلث حين اعترض الإسرائيليون، معتبرين أن وجود الأميركيين بين الوفدين يظهر وكأنهم يشكلون قوات فصل بين الطرفين.

يقول شقير: "كان أعضاء الوفود الثلاثة يجلسون إلى طاولة مثلّثة الى جانب بعضهم البعض، وجرت المفاوضات بشكل مباشر باللغة الإنكليزية، ولم تتم المصافحة بين الأعضاء إلا بغرض التقاط الصورة، وكان الإسرائيليون يصرون على أنها مفاوضات بهدف توقيع اتفاقية سلام، بينما كان جهد الوفد اللبناني، يتركز حول الانسحاب الإسرائيلي من لبنان". ويضيف: "للأمانة، وبحسب ما تبادلته مع أعضاء الوفد اللبناني من أحاديث، فقد كان الجميع معارضاً لاتفاق سلام، مدركين المعارضة الشعبية له". 

كانت الحرب الأهلية في العام 1983 في أوجها، وكانت المفاوضات في بعض الأحيان تتأثر بمجريات الأحداث على الأرض، فكانت الأطراف المعارضة لها تقوم بتصعيد الأعمال العسكرية أو استهداف الفندق في خلدة. يتذكر شقير: "في إحدى جولات التفاوض، أجبرت الوفود المشاركة على الاختباء في ملجأ تابع للفندق بعد استهدافه بقذيفة "بي7" وتم حينها اختصار الجلسة".

جولات التفاوض داخل الأراضي المحتلة جرت في مستعمرة كريات شمونة الحدودية وفي مدينة ناتاليا الساحلية التي تبعد عن تل أبيب حوالى ثلاثين كيلومتراً. كان الوفد اللبناني ينطلق جواً نحو اسرائيل في طوافات تابعة للجيش اللبناني، يرافقهم عدد من الصحافيين، الكثير منهم أصبح الآن في ذمة الله. وكانت اسرائيل تستغل كل فرصة سانحة لتظهر اعترافاً لبنانياً بكيانها.

يقول شقير: "بحجة الطقس الرديء، كان الاسرائيليون يحاولون تغيير مسار الطائرة اللبنانية نحو تل أبيب، بحجة أن الظروف الجوية لا تسمح بهبوطها في ناتانيا، إلا أن المفاوضين والضباط اللبنانيين كانوا دائماً يعارضون بشدة، حتى أنهم، إثر محاولة اسرائيلية، هبطوا في ناتانيا بالقوة وأصدروا وقتها بياناً شديد اللهجة سبّب إزعاجاً للإسرائيليين".

المفاوضات الجارية اليوم في رأس الناقورة برعاية الأمم المتحدة، تقنية بحتة، إذ أنها محصورة في ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل. أما مفاوضات العام 1983، فقد كانت لها أهداف مختلفة، وذلك ما انعكس على شكل الوفد اللبناني المفاوض، إذ انبثقت عنه ثلاث لجان مختصة، لجنة عسكرية لبحث الانسحاب والتموضع العسكري للطرفين، ولجنة سياسية لإنهاء حالة الحرب، ولجنة اقتصادية هدفها بحث العلاقات الاقتصادية المزمع انشاؤها. وحاول الاسرائيليون آنذاك كعادتهم، حفظ وجودهم في لبنان عبر اتفاق 17 أيار، فطالبوا ببقاء نقاط مراقبة إسرائيلية في لبنان، إلا أن الوفد اللبناني كان حازماً في رفض هذا المطلب.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024