زيارة لصالون سيدات يوتيوب المصري..التفاهة الحقيقية اللطيفة

أحمد ناجي

السبت 2020/04/18
مثل ملايين البشر، غرقتُ في الفجوة السوداء للفيديوهات القصيرة في الإنترنت، من انستغرام إلى "توك توك". معظم نجوم "الانفلونسرز" المصريين والعرب، شباب وشابات أقل من خمسة وعشرين عاماً، وبعضهم أقل من العشرين. المحتوى الذي يقدمونه محاكاة للمحتوى العالمي في "توك توك"، مثل تحدي الوسادة، تحدي تناول الطعام في أسرع وقت، وأحياناً تحديات خطرة مثل تحدي كسر حظر التجوال كما حدث مع مودة الأدهم التي نزلت لتصوير فيديو وقت حظر التجوال في القاهرة فتم القبض عليها.

في البداية ستسخر من هؤلاء الشبان والفتيات، ستعتبر أن ما يقدمونه مادة مضحكة، ثم من دون أن تشعر، تبتلعك بلاعة دراما الغيرة والتنافس والصداقة والعداوة، فاليوم حنين (هرم مصر الرابع) تشتكي من خصرها الذي ينحف يوماً بعد يوم، ومن كراهية وشر الحساد. وغداً تنهار هدير الهادي (سندريلا مصر) وهي تبكي بسبب الغيرة والنفنسة من صديقتها الفلانية، ثم الأسبوع المقبل تبتسم وتتصالح مع صديقتها. 

وهكذا.. بحر من التفاهة يبتلعك ويفصلك تماماً عن العالم والمحيط، مثلما يعيشون هم في هذا العالم الموازي، حتى أنه حين قبض على مودة الأدهم بسبب خرق حظر التجوال، لم تستوعب الفتاة ما يحدث وأنه حقيقة وقضية جنائية.

لكن كل شيء في هذا العالم مصطنع، صور تحاكي صوراً أخرى منتجة بالفلاتر وفي بيئات المجتمعات الغربية. وشركات الدعاية والتسويق بصمتُها واضحة في كل صورة وكل فيديو ينشره هؤلاء الانفلونسرز. يتبارون في استعراض الملابس التي ترسلها الماركات لهم، ناهيك عن طقس فتح الهدايا من المحلات التي تصلهم كدعاية.

وظهر فيديو بعنوان "جوزي جاب لي هدية بـ5000 كان نفسي فيها من زمان"، كما ظهر فيديو آخر لصاحبة القناة ذاتها ياسمين شاهين.. ومع توالى الفيديوهات، حل سلام نفسي عجيب، سكنت كل هواجسي وقلقي من الوباء والغد المجهول، وعدت إلى مشهد قديم عمري فيه ثمانى سنوات جالساً أمام التلفزيون في بيت خالتي بينما هي في المطبخ تحمّر لى بطاطس شيبسي (علشان شيبسي الشارع وحش وفيه مواد صناعية) وبيض بالبسطرمة.

لا تقدم ياسمين شاهين أى محتوى سوى يومياتها المصورة. لا موسيقى ولا رقص ولا تمثيل مثل فتيات "توك توك". لا نكات ولا استعراض لمعلومات وأسرار مثل فيديوهات "اليوتيوبرز". لا يوجد أكثر مما هو معلن في عناوين الفيديوهات. "روتين اليومي أنا ولؤي وعدي أولادي".

تفتح الفيديو فتجدها، ياسمين بنت "بني مزار" في صعيد مصر، واقفة في مطبخها تشرح للكاميرا كيف تعد الفطور لها ولأولادها، وتقضي يومها في تنظيف المنزل وترتيبه. أو تحكي لنا عن حياتها وتفاصيلها اليومية من خلافها مع حماتها، إلى ما أعدته لغداء عزومة للعائلة، أو تعرض لنا الملابس الجديدة التي اشترتها لابنها، او تنزل لتتبضع من "السوبر ماركت" وتعود لتشاركنا لوائح الأسعار والمشتريات. حياة عادية لفتاة صعيدية جميلة مرحة لبقة نشيطة.

من هذا الفيديو دخلت الى فيديو آخر، وقناة ثالثة، ورابعة وخامسة. طوفان من القنوات لسيدات مصريات، معظمهن في الصعيد أو الدلتا، وبوضوح ينتمين لطبقات متوسطة ويسكنّ في بني مزار، أو طنطا، متزوجات ولديهن أولاد.

صورة معاكسة تماماً لصور وحسابات "الانفلونسرز" من فتيات الاعلانات، حيث الفلاتر التي لا تنتهي والحياة بين الجونة ودبي و"الكمبوند" في التجمع.


يسحب "يوتيوب" يوميات سيدات مصر إلى الواقع الأليف الذي لا يجد من يعبّر عنه في التلفاز والخطاب الإعلامي الرسمي. مثل يوميات فاطمة وضرّتها. وهي يوميات تسجلها فاطمة التي تعيش في شقة مجاورة لشقة ضرّتها. تتظاهر الاثنتان بالصداقة أمام الكاميرا، وتدخلان منافسات من نوع "مين فين هتأكل أربعة سندوتشات فراخ بانيه".

المدهش هو التعليقات والمجتمع الافتراضي الذي خلقته هذه الفيديوهات. فمن النادر مثلاً أن تجد أى تعليق مسيء في أي من هذه القنوات، بل حتى التنابذ الطائفي والقومي المعتاد، حيث الجنسيات العربية المختلفة تتبادل السباب.. لن تجده، بل على العكس كل التعليقات طافحة بالحب والتقدير الذي لم أجده أبداً تحت أي محتوى عربي.

تتحول سيدات "يوتيوب" الى أيقونة محلية، يقدمن لبقية الفتيات نصائح تمتد من أسرار الطهو والمعجنات، إلى الاستشارات حول كريمات وماسكات الوجه. جزء كبير من التقدير الذي تجنيه سيدات "يوتيوب" يعود إلى العائد المادي الذي يحققنه.

فعلى عكس مشاهير السوشيال ميديا، الذين يخفون كل ما له علاقة بطبيعة نشاطهم التجاري في الانترنت، تحرص سيدات "يوتيوب" كلما وصلهن التحويل من "يوتيوب"، على عرض الدولارات، لا على سبيل التباهي، بل لشكر الجمهور لأنه صاحب الفضل الأول والأخير. 

أما الجمهور فليس محلياً، بل تتدفق الدعوات و"اللايكات" من العراق إلى المغرب. يتعلقون بحياة تلك السيدات ويتابعون وينصحون، بل ويرسلون الهدايا من آخر الدنيا إكراماً لهن. وعلى عكس "الانفلونسرز" الذين يتجاهلون المعجبين، تحرص سيدات "يوتيوب" على الرد على الجمهور وأسئلتهم وانتقادتهم ويأخذن بنصائحهم. ومثلما تفتح سيدة "يوتيوب" بيتها وعائلتها للمشاهدين، فبعضهم أيضاً يعتبرها جزءاً من عائلته.

حين تتدفق النقود من "يوتيوب"، نتابع على مدار الأشهر، تغير وضع سيدة "يوتيوب". فياسمين شاهين مثلاً، تبدأ في الحديث عن الاستقلال وتحقيق الذات، وتشجع النساء من جمهورها على إكمال تعليمهن، وإن رفض الزوج فتوصيهن بسلاح "الزن" والإصرار.

بعض عائلات تلك السيدات يرفض في البداية، الظهور في "يوتيوب" معهن أو حتى قناتهن، لكن مع تدفق المال، نشاهد سيدة "يوتيوب"، وهي تغدق على عائلتها الهدايا، فتتحول في نظرهم الى نجمة، حبيبتهم، حتى الأزواج الذين يرفضون إنشاء الزوجة قناة خاصة بها، يتغير موقفهم مع تدفق الدولارات، ويظهرون كضيوف شرف في الحلقات.

عالم كامل يتشكل بقواعد إعلامية جديدة. فبعد عقود طويلة، احتكرت خلالها الوجوه الغارقة في المكياج والإعلانات، برامج "تلفزيون الواقع"، يحرر الإنترنت فكرة تلفزيون الواقع من سجن الفخامة والمكياج ويجعله بالفعل "شاشة واقع". 

وفي أيام العزل، بينما تغسل ياسمين، أو فاطمة وضرّتها، الأطباق، أو تهتم دودو بأولادها، وعلى عكس "الموسيقى" و محاضرات "البودكاست" والأفلام والمسلسلات، تتدفق ضوضاء البيت المصري لتصنع حولك ألفة قديمة وتذكرك بأن الحياة ليست كلها إنجازات وكتباً وأفلاماً.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024