نعم في فرنسا.. السياسيات عرضة للتمييز الإعلامي

حسن مراد

السبت 2019/03/09
في بعض التشكيلات الحكومية الفرنسية، تتحول النساء إلى ضحايا: فتوزير النساء يساعد على تسويق الحكومة إعلامياً إذ يعتبر توزيرهن دليل حداثة، فيتم أحياناً الدفع بهن لتولي وزارات من الصف الأول، مصحوباً بصخب إعلامي، قبل مراكمتهن لخبرة كافية خاصة على مستوى العمل الحكومي. 
مراكمة هذه الخبرة ضرورية للنساء والرجال على حد سواء، وانتفاؤها يعزز إمكانية الفشل (من دون أن تكون قاعدة حتمية). المفارقة أنه، حين تفشل وزيرة، يتم رد السبب إلى جنسها أي تحويل الأنوثة إلى مرادف لقلة الكفاءة، في حين لم يحدث أبداً الربط بين فشل وزير ذكر وهويته الجندرية. 

بالمقابل إذا ما فرضت احداهن حضورها، ليس مستبعداً أن يبدأ التساؤل السياسي والإعلامي عن هوية عشيقها الذي زكاها لهذا المنصب. موقف اختبرته وزيرة الدولة لشؤون البيئة شانتال جوانو العام 2010، حين سرت إشاعة عن علاقة تربطها بنيكولا ساركوزي. كذلك بالنسبة لرشيدة داتي، التي واجهت حملة شرسة عقب تعيينها وزيرة للعدل، فطُرحت علامات استفهام عن طبيعة العلاقة التي تربطها برئيس الجمهورية حتى تتبوأ بسرعة قياسية هذه الوزارة الحساسة. 

وتمت مقاربة الصعود "الصاروخي" لإيمانويل ماكرون في الحياة السياسية من زاوية مغايرة. فماكرون لم يكن بدوره معروفاً لدى الرأي العام قبل توليه وزارة الاقتصاد العام 2014. لكن فور اقتحامه الوسط السياسي من هذه البوابة العريضة، ضج جزء من الاعلام الفرنسي بكفاءة هذا الشاب، حتى قدمه البعض بصورة المنقذ الاقتصادي لفرنسا. حتى حين تم تناول حياته الشخصية، أي فارق العمر بينه وبين زوجته، لم يكن لهذا الأمر أثرٌ شبيه بالإشاعات التي تطاول الحياة الشخصية للسياسيات.

تبقى الجمعية الوطنية، المسرح الأبرز للميزوجينية (العدائية اتجاه النساء)، حيث تحظى أعمال اللجان النيابية وجلسات استجواب الحكومة بتغطية إعلامية تركز على النائبات، أكثر من جلسات مجلس الوزراء غير العلنية: من تسخيفهن إلى التشويش على مداخلتهن والتعليق على مظهرهن الخارجي

تعزو السياسيات، السبب، إلى أن عالم السياسة أُرسي على أسس ذكورية تحولت مع الوقت إلى قواعد للعمل السياسي. وعليه، سرعان ما تجد كل فرنسية نفسها أمام المعضلة التالية: هل سينجح هذا العالم الذكوري في تطويعها؟ أم على العكس، ستتحداه وتتمسك بحق ممارسة عملها مع لمسة أنوثة؟ 

المثال الأبرز تمسك النساء بتأنيث المناصب: فحين تترأس نائبة أعمال جلسة نيابية تصر على ضرورة مخاطبتها بصيغة المؤنث أي "السيدة الرئيسة" (Madame la présidente) وليس "السيدة الرئيس" (Madame le président)، كذلك خلال جلسات استجواب الحكومة حين رفضت وزيرات الرد على أي سؤال يتضمن عبارة: سؤال موجه للسيدة الوزير (Madame le ministre). 

رغم أن جزءًا من هذه القواعد لا يخرج عن الإطار الشكلي، إلا أن السياسيات الفرنسيات يتمسكن بتحديها تأكيداً على حقهن في معاملة متساوية مع الذكور، فعدم تأنيث المناصب ينطوي على رفض مبطن لأي سلطة نسائية رغم تضمن النظام الداخلي للجمعية الوطنية لبند يلزم تأنيث المناصب.

ويلاحظ أن منسوب الميزوجينية يعلو تجاه أي امرأة تحاول الموازنة بين نشاطها السياسي وحياتها الأسرية. 

فحين انتخبت سيغولين رويال (مرشحة الحزب الاشتراكي للانتخابات الرئاسية العام 2007) نائبة للمرة الأولى العام 1988، بادرت للاستفسار عما إذا كانت الجمعية الوطنية تضم دار حضانة. استفسار رويال كان طبيعياً: فالعديد من المؤسسات الحكومية والخاصة، كقصر الإليزيه، توفر هذه الخدمة للعاملين والعاملات لديها، وهي إحدى الأساليب المتبعة في إدارة الموارد البشرية لما في الأمر من مردود إيجابي على مستوى الإنتاجية من خلال تخفيف الأعباء الحياتية عن كاهلهم. 

تقول رويال أنها قوبلت باستهزاء من النواب الذكور. فالجمعية الوطنية، بنظرهم، مكان للعمل فقط، وعلى مواردها المالية أن تخصص حصراً لتوفير إمكانات للنواب لممارسة مهامهم التشريعية. لكن صدمتها كانت حين علمت بوجود ملعب للغولف أنشأته الجمعية الوطنية، فتساءلت: على أي أساس اعتبر النواب أن تسخير موارد الجمعية الوطنية لممارسة الهوايات والترفيه عن أنفسهم، أكثر أهمية وإنتاجية من دار الحضانة الضرورية لأي أسرة؟ 

الإجابة عن تساؤل رويال يحمل بعداً اجتماعياً: فالواجبات المنزلية ما زالت تعتبر أساساً من مسؤولية المرأة، وبالتالي يعتبر تحررها، ولو النسبي، من هذه القيود خروجاً على الصورة النمطية المرسومة لها. 

بالتوازي، تلقي بعض السياسيات باللوم على الوسائل الإعلامية في تعزيز هذا الانطباع. فالصحافيون لا يجدون حرجاً في سؤالهن مثلاً عن كيفية الموازنة بين السياسة وأسرهن، فيما لم يسبق لهم طرح هذا السؤال على السياسيين الذكور. لا بل أكثر من ذلك، حين تحل إحدى السياسيات ضيفةً على برنامج حواري، لا يجد بعض الصحافيين حرجاً في التعليق على مظهرها الخارجي بدلاً من استغلال الوقت المخصص للبرنامج في محاورتها.

وأحياناً يكون التركيز الإعلامي على المظهر الخارجي بشكل غير مباشر. تقول إديت كريسون، رئيسة الوزراء السابقة، أنها حين كانت ترتدي تنورة، كان يحلو للمصورين التقاط الصور لها وهم راكعون، أي بأسلوب اللقطة السفلية (Low-angle shot) التي تظهر فيها الأحجام أكبر من وضعها الطبيعي، فتظهر بذلك الندوب التي تحملها في ساقها جراء حادث قديم.

ولا تزال إديت كريسون، المرأة الوحيدة التي تولت رئاسة الوزراء في فرنسا العام 1991. في حينها، أطلق عليها أحد النواب لقب الـ Pompadour نسبةً لـ Madame de Pompadour العشيقة المفضلة للملك لويس الخامس عشر وصاحبة النفوذ الواسع في البلاط الملكي.

من جانب آخر، عندما جرت الانتخابات التمهيدية للحزب الاشتراكي لاختيار مرشحه للانتخابات الرئاسية العام 2007، كانت أسهم سيغولين رويال مرتفعة منذ البداية. ولأنه من شبه المحسوم حينها وصول مرشح الحزب الاشتراكي إلى الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية، تهكم لوران فابيوس (وزير الخارجية اللاحق) على ترشحها بالقول: من الذي سيعتني بالأولاد؟ 

هذه الميزوجينية ليست غريبة عن السياسة الفرنسية، الغريب لماذا لا زالت هاتين العبارتين حاضرتين أكثر من غيرهما في الذاكرة الإعلامية الفرنسية؟ ببساطة لأن سيغولين رويال وإديت كريسون هما أكثر امرأتين اقتربتا من رأس السلطة في فرنسا. صحيحٌ أن مارين لوبان بلغت بدورها الدور الثاني في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، لكنها ظلت أقل عرضة للميوزوجينية إذ لم تفسح المجال لأحد في إيجاد ممسَك جندري ضدها.

يجمع علماء الاجتماع والنفس والتربية، على أن ما تتعرض له النساء السياسيات في فرنسا لا يمكن فصله عن التمييز الجندري الذي ما زالت الفرنسيات تتعرض له اجتماعيا ومهنياً. وهناك إجماع لدى مناصري حقوق المرأة أنه لا زال هناك الكثير من الجهود لبذلها لتعزيز الحضور السياسي للفرنسيات، والمقصود طبعاً ليس الاكتفاء بالزيادة العددية بل بتبوئها لمناصب أساسية مؤثرة في سياسة الدولة.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024