بيروت.. سلسلة مغامرات عبر الزمن

سابين سلامة

الخميس 2020/02/27
إنه العام 1950، نحن نقف أمام «مقهى الزهرة» الشهير في أسواق بيروت العتيقة. نسأل أحد الطلاب عن البرج فيقول لنا «تأخرتوا! كان هنا، بس هدموه ليبنوا هذا المقهى والسوق».

ثمة زحمة اليوم في بيروت، لم نرَ يوماً مثل هذه الزحمة في الساحة إلا في التظاهرات. لكن هنا، في بداية الخمسينات، الناس تأتي من كل الأماكن والمناطق، تصل من بعيد في القطار إلى حيث تتلاقى الخطوط كلها. أين نبدأ رحلتنا؟ هل نمشي باتجاه سينما روكسي ونشاهد فيلماً خمسينياً؟ أو نجلس مع الشعراء في مقهى «فتوح»؟ أو ربما، نتجوّل في الحديقة... لنبدأ بجنوب الحديقة حيث يقف تمثال الشهداء القديم. «الباكيتان» سماه النحات يوسف الحويّك، صديق جبران خليل جبران العزيز (كان عمّه البطريرك الياس الحويك الذي رسم لنا حدود لبنان الكبير في مؤتمّر الصلح). تمثال عظيم لأمرأتين، مسلمة ومسيحية، تندبان فوق قبر الشهداء.

مدحته مجلة «المعرض» العام 1930 عندما كتبت «أجمل ما في هذا الأثر أنه يصنع كله من الأراضي اللبنانية. فصلصاله لبناني، والحجر الذي ينحت منه لبناني، واليد التي تنحته لبنانية صرفة، والفكرة التي أوجدته احتوتها مخيلة لبنانية". لن يبقى هذا التمثال هنا طويلاً، بعد عامين (أي في العام 1952) ستبدأ الحملة عليه في البرلمان أولاً، وتمتد إلى أن يقول عنه البعض إنه «رمز الذل والخنوع». وسينصحنا فؤاد سليمان في العام 1953 بتجنبّه، كاتباً «إذا مررتم بساحة الشهداء ورأيتم الحجر الكبير الذي زرعوه هناك، أغمضوا عيونكم عنه، إنه صنم…». صحيح، لم تكن الساحة هنا تدعى «ساحة البرج»، كانت قدّ تحوّلت إلى «ساحة الشهداء» بعد سقوط السلطنة العثمانية. لكننا لم نلاحظ الفرق، الجميع هنا يعرفها بـ"البرج"، حتى إذا لم تعد تملك ذلك البرج الذي، بحسب غسّان تويني، كان «أول ضحايا التوق التاريخي لبيروت وساحتها». غير أنها لم تفقدّ وظيفتها التاريخية. هنا بيروت، هي نفسها للجميع، لا تنتمي لأحد وليست الساحة رمزاً "للثورة" و"الانتفاضات". هذه التعابير بدأت تظهر لاحقاً وتنتمي لحقبة أخرى، سنزورها في الوقت المناسب. أما الآن، فدعونا نستمتع قليلاً بالخمسينات قبل أن يأتي قطار «الزمن الضائع» لينقلنا إلى المستقبل القريب...

نصل مجدداً إلى الساحة، زحمة الناس زادت، يبدو كأنه أحتفال عظيم. يقف سياسيون أمامنا على منبر، ويخاطبنا رجل يشبه الرئيس فؤاد شهاب من كتب التاريخ. ثم يكشف عن تمثال النحات الإيطالي "مذكوراتي" الذي نعرفه جيداً ولا يشبهنا كثيراً. يشعرنا هذا التمثال الجديد بأننا فعلاً في بيروت، فنحن لم نرث أي شيء آخر من هذه الساحة، حتى أن هذا التمثال لم نرثه كاملاً.

هنا (أي في 1960) تغيّر المشهد قليلاً، لم يعد السراي القديم موجوداً، هدموه وتخلصوا من تحفة الحويك، نقلوا الامرأتين إلى متحف سرسق لكي تندبا بعيداً من الساحة، وليرقد التمثال في عتمة الزمن المفقود... المهم أن ساحة البرج لم تفقد وظيفتها. هي حتى الآن، على قيد الحياة، ونحن، سكان المستقبل، نشعر وكأننا ننتمي للساحة... نشرب من كحولها ونرقص على ألحانها بين الناس وتحت أضواء المدينة التي لا تنام. نحتفل إلى أن ينطلق القطار من جديد وينقلنا إلى العقد التالي...

محطة 1970 هي فرصتنا الأخيرة كي نستفيد من جمال ساحتنا الوحيدة، قبل أن تُدمّر وتموت معها ذاكرة اللبنانيين الجماعية. ستتحوّل قريباً إلى مجموعة صور في أرشيف الحنين إلى الماضي. لن نستطع زيارتها بعد الآن، إلا في مخيلتنا، كلما سمعنا سائق التاكسي العجوز في العام 2020 يتحدّث عن كيف كانت بيروت "أمّ الفقير"... فلنتجوّل قليلاً في سوق "أبو نصر" أو نسلك زاروب "جورج المر" ونشرب القهوة في مقهى "ويليامس"، على درج سوق البيض. نحتاج أولاً بعض السجائر، هل نحضرعلبةً من بائعي الدخان الأميركي المهّرب إلى جانب مسرح فاروق؟... يلا، فلنسرع قبل ان يأتي القطار...

في 1980، نخشى الترجّل من القطار، لا نريد أن نغامر في هذا العقد المنتمي إلى المليشيات وأسلحة "المقاومين". غادرت الحياة ساحتنا، فقدت زحمتها. المنشورات الوحيدة التي نراها هي الصحف السياسية، البروباغندا الحزبية والمذهبية، أو صور شباب مبتسمين في أوراق مدوّن عليها "مفقود". ولم تعد بيروت تستقبل الزوار من بعيد، إلا الذين يحضرون معهم المزيد من الأسلحة. في هذه المحطة، لن نغادر القطار. سنجلس في المقطورة إلى ان ينطلق من جديد ويبعدنا من رائحة الموت الكريهة... قطارنا الوهمي هو القطار الوحيد الذي يتحّرك في بيروت، سكته ليست حديدية، لا تستطيع الحرب تعطيله، سيذهب إلى أقصى أبعاد الأبدية... هل نغامر معه إلى المستقبل؟ أو نبقى لنعيش في تاريخ خذل الجميع؟... وإذا قررنا البقاء، في أي ماضٍ نعيش؟

هذه أسئلة لوقتٍ آخر، الآن ندخل على التسعينات. غادِروا على هذه المحطة إذا رغبتم، وتفقدوا ساحةً لم تعد تنتمي لأحد. لم تعد ساحة البرج، ولا ساحة الشهداء. انقرضت الحياة التي كانت فيها، وها هي اليوم تنتظرغزو الجرافات الآتية من بعيد لتدمّر ما تبقى منها، تحت شعار "إعادة الأعمار" اللطيف. شاهدوا هذا المشهد مرةً أخرى، من قرب. سأنتظركم في القطار، أيقظوني في 2020.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024