هل يجب التعاطف مع سندريلا المخيمات؟

وليد بركسية

الإثنين 2019/08/19
ربما يكون التساؤل عن صحة التعاطف مع طفلة سورية لاجئة من الحرب والموت في سوريا، من عدمه، للوهلة الأولى مستغرباً ومستهجناً، لكن التعاطف الذي أبداه معلقون على نطاق واسع في مواقع التواصل الاجتماعي، مع الطفلة السورية سناء (6 سنوات)، خلال الأيام القليلة الماضية، كان مستفزاً بسبب طبيعته المشوهة.


فبعد انتشار الصورة التي التقطها المصور السوري أحمد الأحمد، أواخر تموز/يوليو الماضي، في مخيم الرحمة في شمال محافظة إدلب السورية، بشكل طبيعي وروتيني، عادت الصورة للظهور في سياق مختلف تماماً. إذ نسبها معلقون إلى مصور بريطاني من دون تسميته، وتحول معيار التعاطف معها من كونها طفلة لاجئة، مثل آلاف الأطفال في البلاد، تعاني تبعات الحرب السورية المستمرة منذ ثماني سنوات، إلى كونها طفلة جميلة تعاني الفقر.

حصرُ مفهوم التعاطف هنا في شرط الجمال وحده، هو المستفز، لأن أصحابه يظهرون وكأنهم يستخفون بمعاناة كل الأطفال الآخرين الأقل جمالاً، والذين لم يمنحهم حظهم العاثر عيوناً ملونة وشعراً أشقر، كي تنتشر صورهم وتحظى بالإعجابات المتتالية في مواقع التواصل، وكأنهم كائنات من درجة أدنى، ما يستوجب أن يشيح الناس بأنظارهم بعيداً منهم كي لا تهتز مشاعرهم الرقيقة، من "قلة جمالهم". كما أن استغراب التعليقات من وجود أطفال جميلين في ظل الحرب، مستفز أيضاً، لأن الحرب لن تؤثر جينياً في ملامح الأطفال، وإن كانت تؤثر فيهم حُكماً من ناحية الجروح والإصابات والتشوهات التي تتركها القذائف في أجسادهم الصغيرة، من دون الحديث عن سياسات التجويع التي تؤدي إلى إضعافهم أيضاً.


ولا يتوقف الأمر عند هذا البُعد التحليلي البديهي، فالمعلقون مع تتالي نشر الصورة، اتجهوا إلى نزع سياق الحرب السورية عنها وقدموا سياقاً مختلفاً تماماً يتعلق بالفقر والثروة، لا الحرب والنزاع والجرائم ضد الإنسانية المتكررة في البلاد. وعلى هذا الأساس المشوه ترددت عبارة: "ما أقبح الفقر وما أجمل الفقراء" مع الصورة، وتم تعميم تسمية "سندريلا المخيمات" على صاحبتها، في مقاربة مع القصة الخيالية الشهيرة حيث تنتظر الفتاة الفقيرة الأمير الغني كي ينتشلها من حياتها المعدمة كخادمة، وتلك إهانة أخرى ربما بمعايير القرن الحادي والعشرين للطفولة والنسوية على حد سواء.

وتجب الإشارة هنا إلى قوة السوشيال ميديا في خلق الوهم السابق، بطريقة مشابهة لانتشار الأخبار الكاذبة، إذ لا يأخذ الضغط على زر المشاركة أو نسخ العبارات المكررة وإعادة لصقها، جهداً أو وقتاً، خصوصاً أن هنالك عاملاً جاذباً يتجلى في الصورة "الجميلة"، حيث يمتزج الألم بالجمال مع الفقر والحرب لخلق "كليشيه رومانسي"، يحقق لأصحابه نوعاً من الرضا ربما لأنه قد يتكفل بتحصيل بضعة إعجابات إضافية وقلوب حمراء وشيء من الدموع الافتراضية أيضاً، ليأتي شخص آخر ويضغط زر المشاركة وتتكرر الدائرة المغلوطة المشوهة مرة أخرى.

ومع تكرار ذلك لآلاف المرات، تنتقل الصورة إلى وسائل الإعلام التي تتعامل مع الصورة كواقع مثبت لمجرد انتشارها في مواقع التواصل، ويسهم ذلك في إيصال السياق المشوه إلى جمهور أوسع يقوم بدوره بنشره في مواقع التواصل لتبدأ بذلك دائرة مغلقة جديدة من النشر، يغيب معه السياق الأصلي الخاص بالحرب السورية وجرائم الحرب في البلاد والمتسبب بها، لصالح سياق تبسيطي تافه عن الجمال والفقر والقصص الخيالية.

والحال أن هذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها البحث عن صورة جميلة ونقية لأطفال سوريين من أجل التعاطف مع جمالهم فقط، ففي العام 2014 انتشرت صورة لطفلة جميلة قيل حينها أنها تبيع العلكة في شوارع مخيم اليرموك جنوب دمشق وسط الحصار والحرب التي كانت في أشدها. وحظيت الصورة بتعاطف واسع وسميت الطفلة "موناليزا سوريا"، قبل أن يتبين أن الصورة لطفلة لبنانية لا علاقة لها بسياق الحرب السورية أصلاً. كما انتشرت في وسائل إعلام عالمية صورة لطفل سوري يدعى أحمد، العام 2016، التقطت له في اليونان، خلال أزمة اللجوء الأوروبية حينها، وكان التعاطف معها محصوراً في جمال عينيه الخضراوين اللتين لا تستحقان التشرد والبؤس، حسبما كانت التعليقات تردد حينها، والتي وصلت إلى وسائل إعلام عالمية مثل مجلة "تايم" الأميركية.

في ضوء ذلك،، يصبح التساؤل عن سبب ذلك السلوك الجمعي ضرورياً. حيث يظهر المتابعون وكأنهم حريصون على نشر الصورة وإبداء تعاطفهم لإثبات امتلاكهم للحد الأدنى من الإنسانية والاهتمام بالشأن السوري الموجع والمهم في آن واحد، عند التلويح أمامهم بحقيقة أن الشأن السوري لم يعد أولوية لأحد في وسائل الإعلام ومواقع التواصل وتحول إلى حدث ممل من الدرجة الثالثة يكرر نفسه منذ سنوات.


يتقاطع ذلك مع فكرة أن ثقافة السوشيال ميديا غذّت رغبة العالم بمشاهة الصور النظيفة البعيدة عن العنف والقسوة، حتى لو عنى ذلك تجنب الحقيقة. فصُور الأطفال الذين قتلوا في الهجمات الكيماوية مثلاً مقارنة بصورة "سندريلا المخيمات"، تبقى مؤلمة وموجعة وتطارد الناظرين إليها لتذكرهم بعجزهم ربما. أما الصورة النظيفة التي لا تتضمن الأشلاء والدموع فتترك للناظر إليها مساحة لتخيل الأسباب الكائنة وراءها. لكن المشكلة اليوم هي أن السياق المشوه يحيل إلى أسباب لا علاقة لها بالواقع، خصوصاً أن "سندريلا المخيمات" التقطت في لحظة هادئة لا تتضمن حدثاً حربياً مباشراً، وليس كصورة الطفل عمران دنقيش في حلب العام 2016 والتي تصدرت الإعلام العالمي حينها، كرمز للقصف الأسدي على أحياء حلب الشرقية، رغم كونها صورة نظيفة أيضاً.

وفي السابق، كانت وسائل الإعلام تتحكم في ما ينشر وما لا ينشر، لتحدد بالتالي ما يتعاطف معه الناس وما يجب عليهم الاهتمام به، لكن السوشيال ميديا غيرت ذلك جزئياً، حيث بات الناس مسؤولين عن تحديد معيار النشر مباشرة، من دون أن يتغير معيار الصورة النظيفة، خصوصاً ان مواقع التواصل تحجب المحتوى العنيف وتتطلب على الأقل موافقة المتلقي على مشاهدة الصور المحجوبة قبل كشفها أمامه. ذلك التحذير بحد ذاته، يشكل عائقاً نفسياً أمام الناشرين العاديين الذين قد تنحصر دوافعهم من النشر والاهتمام، بأسباب تتعلق بالرضا الذاتي "Self-esteem"، ولا يشمل ذلك بالطبع الناشطين الذين يكرسون وقتهم للنشاط الافتراضي.

وللأسف، يكرس هذا النمط ككل، التعاطف كفعل بحد ذاته، بدلاً من أن يكون أمراً بديهياً يؤسس للفعل الذي يحدّ منه العجز الفردي أولاً، وعدم وجود أي تحرك رسمي لحل المشكلة ثانياً، والذي يأخذ في الحالة السورية، شكل تحرك دولي لإيقاف الحرب ومحاسبة الأطراف الفاعلة فيها على انتهاكاتها. وبالطبع، لا تؤدي الصورة النظيفة إلى أكثر من التعاطف المريح لصاحبه، لأنها تبقى في إطار التعميم السطحي القائم على تجهيل هوية المجرم وتعميم الألم الرومانسي، والدليل واضح مجدداً: لا أحد على الإطلاق يذكر المسؤول عن معاناة "سندريلا المخيمات"، ربما لا أحد يبالي حقاً.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024