في السيرك المسمى"سوريا": إذلالك مضمون حتى بعد وفاتك

وليد بركسية

الثلاثاء 2020/07/28
"هذا البلد يحسسك بالذل والإهانة وعدم الإنسانية في كل لحظة و بشكل يومي ومتواصل"، هي واحدة من العبارات التي يكتبها كثيرون من السوريين بشكل أو بآخر، للتعبير عن الحالة التي وصلت إليها حال البلاد، في وقت يتفنن فيه نظام الأسد بجعل هذا الإحساس ممنهجاً وحاضراً أكثر من أي وقت مضى.

ولا يقتصر الإذلال فقط على مطالبة النظام للسوريين بالصمود وإظهار الامتنان والمشاعر الوطنية من دون وجود الحد الأدنى من الخدمات الأساسية كالكهرباء والمحروقات في البلاد، بل يتم تعزيز ذلك بتحويل البلد إلى سيرك كبير لا يعرف المتابع لعروضه إن كان يجب عليه الضحك أم البكاء. ويبرز هنا مقطع فيديو متداول من مهرجان التسوق الذي تقيمه محافظة دمشق، ويصور إعلانات غريبة لمنتجات محلية يتراقص فيها أشخاص متنكرون بأزياء تمثل عبوات  من "السمنة" والزيت مع أناشيد دينية تردد: "طلع البدر علينا"، في مشهد سوريالي بحت.


وبالطبع، فإن الضحك هو ردة فعل طبيعية على ذلك، لكنه ضحك مرير، خصوصاً أنه يتوازى مع دعاية النظام السوري وتصويرها للبلاد على أنها جنة حقيقية تتفوق على كافة دول العالم في الإبداع والحريات واحترام حقوق الإنسان وصون الكرامة البشرية. والأسوأ ربما أن هذه المهرجانات والمقاطع نفسها تستخدم في دعاية النظام نفسه للمزاودة على السوريين أنفسهم ولومهم على ما يحصل في البلاد من مشاكل، تتمثل حالياً بازدياد حالات الإصابة بفيروس كورونا المستجد.

ومع نعت السوريين بالمتخلفين لعدم التزامهم بإجراءات الوقاية من فيروس كورونا، تتكرر مشاهد البؤس والإذلال التي تضاف إلى مشاهد مماثلة سابقة مثل طوابير الحصول على الخبز والغاز، وحوادث ربط الشبان بالسلاسل الحديدية عند اقتيادهم للخدمة الإلزامية. ولا تبدو "الدولة السورية" هنا منفصلة عن جذورها كثيراً كما أنها لا تأتي بجديد فعلياً، مقارنة بالعقود الماضية، فالنظام عبر سياساته المختلفة منذ استيلاء عائلة الأسد على السلطة في سبعينيات القرن الماضي، عمد بشكل ممنهج إلى إذلال السوريين كأساس لإخضاعهم، ولهذا السبب بالتحديد حملت الثورة السورية العام 2011 اسم "ثورة الكرامة"، مع الإشارة إلى أن فكرة الكرامة نفسها تم تشويهها في خطاب النظام، لتصبح مرادفة إلى الولاء للوطن البعثي فقط، وبذلك يصبح كل من عارض النظام فاقداً للكرامة.

يعرف ذلك باسم "كسر النفسية"، وهو نموذج في الحكم يهدف إلى إبقاء السوريين منشغلين بالحاجات الأساسية لبقائهم على قيد الحياة بالحد الأدنى من دون امتلاك "رفاهية" النشاط السياسي والفكري، بغض النظر عن ظروف التخويف والاعتقال التعسفي. وبالتالي عندما يتم تحدي النظام كما حصل خلال الثورة السورية العام 2011، يضمن النظام عدم وجود طبقات وسيطة بين النظام في الأعلى والمدنيين المنتشرين في القاع، والقادرة على تأمين رحيل النظام نفسه بسلاسة من دون الانجرار نحو العنف. وكان النظام بأيديولوجيته المجردة يدرك ذلك ولهذا طرح شعارات المفاضلة بين النظام والفوضى منذ العام 2011، كما تجلى ذلك أيضاً بنوعية المعارضة السورية الضعيفة والمجزأة، قبل تحول الثورة إلى العسكرة أصلاً.

ومن غير المدهش بالتالي، أن يعود النظام لاحتكار بيع الخبز والمواد الغذائية عبر نظام "المؤسسات الاستهلاكية" التي باتت ملائمة للعصر الحالي عبر "البطاقة الذكية" التي استبدلت "البونات" التي كانت منتشرة في الثمانينيات والتسعينيات. ومعها يصطف الناس للحصول على حصتهم من تلك المواد، بحيث يضع النظام نفسه في مرتبة صاحب الفضل أمام السوريين، قبل المطالبة بشكره وحمده والصبر معه على المؤامرة الكونية.

ولا يقتصر إذلال السوريين على لحظات حياتهم، بل يمتد إلى ما بعد وفاتهم التي لا تكفي للخلاص من لعنة الحياة يوماً في "سوريا الأسد". على سبيل المثال، ينتشر مقطع فيديو مسرب من مشفى "الأسد الجامعي" بدمشق، ويظهر فيه أحد العاملين وهو يوجه شتائم نابية طالت جثة سوري توفي على الأغلب بعد إصابته فيروس كورونا. ولا يتعلق الإذلال فقط بالشتائم التي توجه للسوريين وعائلاتهم في أي دائرة رسمية، ومنها المشافي، بل أيضاً تظهر الاستهتار بمشاعر الآخرين في أكثر لحظاتهم انكساراً، عند مفارقة أحبائهم للمرة الأخيرة. بالتوازي مع فائض القوة الممارس على الناس العاديين، من أشخاص يعملون في هذه المؤسسات الرسمية، حتى لو لم يكونوا مسؤولين رسميين برتب رفيعة.


وفيما مثّل التسجيل الذي اضطرت إدارة المستشفى للرد عليه في بيان تافه وعدت فيه بـ"التحقيق لاحقاً" دليلاً على تواجد حالات وفاة بفيروس كورونا في البلاد لا يتم الإعلان عنها، فإنه يذكّر بطيف واسع من الممارسات التي طالت الأموات قبل الأحياء، مثل مقاطع الفيديو الخاصة بنبش القبور في المدن والقرى التي كان جيش النظام وميليشياته يستعيدون السيطرة عليها، وآخرها بعض البلدات في محافظة إدلب، في وقت سابق من العام الجاري.

هذا الأسلوب في تحطيم بنية المجتمع السوري، بتحطيم نفسيات أفراده، هو جزء من الإرث البعثي، ولا عجب في التالي أن يكرر عشرات المعلقين من اللاجئين السوريين حديثهم عن شعورهم بالراحة لابتعادهم جغرافياً عن ذلك المكان المظلم المخيف، ولا دهشة في شعور السوريين الذين مازالوا في البلاد باليأس والعجز أمام هذا الواقع الذي يبدو الحديث عنه، اقتباساً من رواية متخيلة تجري أحداثها في عالم افتراضي في أجواء من الديستوبيا، أكثر من كونه نقلاً للواقع بلا أي مبالغات درامية.

وتشير عودة النظام الذي "ضمن الانتصار في الحرب العسكرية" إلى هذا الأسلوب بدرجة من العلنية تسمح له بإصدار بيانات بشأن الحوادث المختلفة، رغم محاولة التستر عنه جزئياً في العقد الأول من حكم بشار الأسد للبلاد، إلى رهانه على حكم البلاد مجدداً بقبضة حديدية مثلما كان عليه الحال خلال ثمانينيات القرن الماضي، عبر تكريس جذوره القمعية، بالقول أن الثورة كانت حادثاً عرضياً خارجياً انتهى، بدلاً من الاتجاه نحو الإصلاح الذي يطالبه به حتى أقرب حلفائه في موسكو، ما يجعل الناتج عن ذلك الرهان في المستقبل القريب مثيراً للاهتمام قطعاً.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024