فضيحة لم تُدفن مع عامر فاخوري

نايا الحاج

السبت 2020/08/29
مات عامر فاخوري، بعدما انقضت فضيحة إطلاق سراحه، وأغلقت القضية كما تغلق كل القضايا، حيث يراهن المسؤول على قصر ذاكرة الناس، ولطالما نجح في رهانه هذا. ليثبت أن الناس، وتحديداً معارضيه، ما زالوا في المرحلة الأولى من مواجهته، مرحلة قصر الذاكرة وعدم القدرة على استكمال أية قضية. لذا، ولأن ما جرى حدث تاريخي، وليس قصة عابرة، ولا يجب أن يعبر ذاكرتنا، فمن المفيد التذكير به، فكل وقت هو وقت طرحه. وبذلك قد نتخطى مرحلة المواجهة الأولى والأبسط بإثبات أن لنا ذاكرة، وبمحاولة إنعاش الذاكرة التي تموت بسرعة لدى أشخاص كثر، علها تولد ذاكرة جديدة لا تعفو عما مضى ولا تفكك الأحداث عن بعضها البعض فتكرر أخطاءها. 

والقضية اليوم تعرّي الكثير من البنادق، إذ استسهل أصحابها الصمت إزاء إخلاء سبيل "جزار معتقل الخيام" والسماح له بالسفر وتبرئته بمرور الزمن، وكأن على الضحايا أن ينسوا عذاباتهم بمرور الزمن، وكأنّ ما حفره الفاخوري في نفوسهم وفي أجسادهم سيُمحى بمرور الزمن. وها هم "المقاومون" يحاولون اصطناع خطاب نصر جديد، أو تعزية جديدة، بعد وفاة إلهية لقيها الفاخوري. وشاءت الأقدار أن يأتي إلى لبنان قبل أشهر قليلة من ميتته الهانئة. وكأنه أتى ليفضح التسويات وكيف يمكن لجزار أن يمر بسلاسة على جراح ضحاياه المفتوحة، والتي كانت تنتظر بعضاً من ثأر لتحاول أن تتناسى نزفها. وكأنه أتى ليحكي قصة معتقل أكبر اسمه لبنان..

ميتة الفاخوري هذه حفرت في نفوس الناجين جرحاً أكبر، بعد فضيحة التسوية، وتقتل لديهم الأمل في عدالة ما. وكان الأغرب أنّ من أعلن إقفال القضية يومها (وإن لم يقلها حرفياً) كان المزايد الأكبر في عداوة إسرائيل ورافع راية الثأر لمن قتلتهم ومن عذبتهم، والمدير الجديد لما تبقى من أثر المعتقل. نجح الرجل في إقفال القضية بعبارة "لم نكن على علم بإطلاق الفاخوري". واليوم، وبعد تكرار الكذبة نفسها إثر تفجير مرفأ بيروت، باتت عبارة "ما بعرف" نكتة سمجة سميكة قاتلةً. وما عاد كثر ممن كانوا يصدقون الرجل، يصدقونه اليوم، لكن بعضهم ليس قادراً بعد على الإنفصال عنه، فيبحث له عن مبررات.

واليوم وبعد وفاة الفاخوري تعود إلى الأذهان صورة معتقل الخيام الذي تولى العميل إمرته العسكرية. وإن كانت الصورة تحيي ذاكرة سوداء لدى من زار المعتقل بعد نحو عقدين من التحرير، فماذا بها تفعل بمن اعتقلوا هناك، وما الذي ينشط في نفوس من نكّل بهم الفاخوري وهم يراقبون مسار اللاعدالة على الأرض؟! كيف لهؤلاء أن يغفروا للأقوى الذي كان في إمكانه، إن أراد، أن يثأر لهم بشيء قليل من العدالة لكنه رفض، وهو الذي يقول دوماً بأنه مع الحق مهما كلف.

والأقوى هنا هو المسيطر اليوم على أرض المعتقل، يستقبل زواره ويحكي لهم قصة المعتقل وتاريخه بلسانه. لسان ربما يريد منه أن يصوّر أن كل مَن اعتُقل هو من حزبه وناسه، وأنه وحده من قاوم وعانى وضحى. وقد طرحت وفاة جزار المعتقل، السؤال: هل سيكمل هذا اللسان قصة المعتقل حتى فصلها الأخير؟ فصل إطلاق سراح جزاره وما رافقها من تواطؤ؟ كيف تُرك لميتة هانئة حرة متمتعاً بحماية وحقوق، فيما ضحاياه ما زالوا أسرى الذكريات المؤلمة، والتي أثقلها عجزهم عن الثأر ومرور جزارهم من أمامهم وكأنه يلقي عليهم التحية الأخيرة بقصد الشماتة ورفع القناع عمن اعتقدوه صاحب ثأر. أم أن الراوي هنا سيكتب الفصل الأخير وفق ما تقتضيه مصلحته.. رغم أنه "لم يكن على عِلم"، وسيحكي عن عدالة باتت تسوّق لها أبواقه بموت العميل، وكأن الموت الطبيعي استجدّ للثأر منه، وليس سُنَّة الحياة.

الأكيد اليوم، من بعد ردّ الفعل على الوفاة، بأنّ الرّاوي سيغيّب كمالة الرواية الحقيقية، والتي تحكي قصة تهريب "الجزّار" و/أو تبرئته، قصة الصفقة التي لم نعرف كامل تفاصيلها، وقصة أن من نكّل بأبناء الجنوب غُفر له ذنبه، ورضي بذلك من يحرسون المعتقل اليوم ويحتكرون أرض المعركة. أولئك الذين ينطقون باسم من عُذّبوا فيه ويحكون للزائرين عن فظاعة ما عاشوه، وفظاعة من خانوا أبناء بلدهم وأداروا المعتقل، فكانوا أقسى على المعتقلين من المحتل نفسه. لكنهم لن يحكوا، أنهم، بالاتفاق مع آخرين، أسقطوا هذه الفظاعة بمرور الزمن. فالمعتقل اليوم أسيرهم كما قصص من أكل من عمرهم ولحمهم. لن يعترف أصحاب التسويات اليوم بأنهم غفروا بشكل أو بآخر، غفروا من دون الرجوع إلى أصحاب الشأن الذين سيزايدون باسمهم. لن يعترفوا بأنهم وافقوا على سلام ما مع مجرم يوهمون الناس بأنهم يرفضون أي سلام معه.

لكن فلنتفاءل قليلاً، فلربّما يعطي تهاونهم مع العملاء الحقيقيين الأمل لأبرياء يخوّنونهم من دون ذنب، سوى المطالبة بحق، بأنهم سيرحمونهم كما رحموا العملاء. أو ربما لا، فالخيانة لا تضر بأصحاب التسويات، أما مطالبة الناس بحقوقها أو نطقها بالحقيقة، فتفعل ذلك. لأن نيل الناس حقوقهم يضعف المقامرين بدمائهم، ويحررهم منهم، ولأنه لن يبقيهم أسرى معتقل الجهل والحاجة.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024