تسعيرة الشهيد في مجلس الجنوب

وليد حسين

الإثنين 2020/01/27
كلما سمعتُ كلمة "مجلس الجنوب"، قفزت أمامي صورة والدي أبو واصف، شاعر المقاومة، كما يسمه جيله الذي رافقه في مسيرته "النضالية" منذ ستينات القرن المنصرم.

أبو واصف الذي سطع نجمه "الشعري" خلال ثمانينات القرن المنصرم، عندما كانت جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية (جمول)، تقدم الشهيد تلوى الآخر، وطاوله الدور باستشهاد ابنه زياد. وكان يواظب على تلقين أخي الصغير أشعار المقاومة لإلقائها في مهرجانات الحزب الشيوعي اللبناني، مبجّلاً استشهاد ابنه دفاعاً عن الوطن الذي يريده علمانياً وديموقراطياً، كما يحلو له. حتى أن أشعاره، التي ضمّنها في كتاب منذ سنوات، لا تنضح إلا بكلام المقاومة والعداء لإسرائيل وتمجيد الشهادة وحب الوطن ولعن الفساد وأمراء الحرب.

لا يغيب عني مشهد وجهه الممتقع والغاضب عندما قفل عائداً من "مجلس الجنوب" إلى دكانه الصغير في وادي الزينة. "ثمن شهيد جبهة المقاومة مئة ألف ليرة" قالوا له، بينما كان ينتظر حصوله على عشرين مليون ليرة كبقية شهداء "حزب الله" و"حركة أمل" وضحايا اعتداءات إسرائيل.

أذكره جيداً لاعناً الساعة التي ذهب فيها من الأساس إلى مجلس الجنوب لتقديم طلب الحصول على تعويض مالي عن أخي زياد، الذي استشهد خلال عملية لنصب كمين لدبابة ميركافا إسرائيلية في العام 1987، ولم نجد من جسده إلا نثراً لمواراتها الثرى. وكان والدي قد سجن أكثر من مرة في معتقل الخيام الشهير، بسبب نشاطه الحزبي، وفقَد "ورشته" المربحة جداً في بلدته حولا، دفاعاً عن "المقاومة" التي طوّبها النظام السوري ماركة حصرية لـ"حزب الله" والرهط الممانع.

واستشهاد زياد جعلنا نفر من البلدة بعدما اعتقلوا أخوتي، وبتنا من المهجرين، كما كان يقال، في منطقة الرميلة الساحلية. وكان قد سبقنا والدي بعدما أبعده جيش لحد عن بلدته. وكان مصيره جمع ما لديه من المال لفتح "دكان سمانة".

ربما القلة والحاجة للمال وحقه في التعويض، هو ما دفع بوالدي إلى تقديم الطلب إلى مجلس "الجيوب"، والحصول على تعويض إسوة ببقية الشهداء.. أو ربما إصرار والدتي عليه، لا فرق. لا أعلم بالتحديد. وعندما بدأوا دفع التعويضات لعوائل الشهداء (مطلع التسعينيات) قالت له والدتي: ما بالك لا تذهب لتقديم طلباً ونحصل على هذا المبلغ طالما أنه حق لنا؟ وبعد تردد، لقناعته بأن الشهادة ضد إسرائيل لا تقدر بثمن، وإثر إصرار والدتي، اقتنع، وربما قال في سرّه نحن بحاجة لمثل هذا المبلغ حالياً.

أتت الموافقة على الطلب وقيل له أن الشيك جاهز ليتقاضاه. ذهب بالفعل إلى المجلس، والتقط الشيك وربما قال في سرّه "فُرجت". فتحه وقرأه أكثر من مرة. وعدّل نظارته أكثر من مرة. وقال ربما أخطوا في شيء ما. فعاد للموظف وسأله إذا ما كان من خطأ قد ارتكب. لكن الموظف أكد المكتوب وقال له: "هلقد كان سعر الشهيد في العام 1987". لم يجادل بأن غيره تقاضى عشرين مليون ليرة. فهم أبي الرسالة. يريدون إذلالي لأنني شيوعي ولم أصبح مرتزقاً، مثل كثر من جيلي، عند "حركة أمل". فذهب إلى رئيس المجلس، الذي كان حينها حسن يوسف، ربما، ومزق الشيك ورماه في وجهه.

هذا هو مجلس الجنوب الذي أذكره. أو هذا ما تحفظه ذاكرتي عنه. طبعاً أذكر روايات كثيرة عن فساده في تشييد مدرسة بملايين الدولارات، بينما كلفتها الأساسية لا تتخطى المليون، أو حفر بئر أرتوازي من هنا، أو شق طريق من هناك، تفوح منها روائح صفقات وتلزيمات كما يردد الجنوبيون. لكن هيئة والدي الغاضبة، مطبوعة في ذاكرتي، وتختصر علاقتي مع هذه المؤسسة العامة التي كرستها "حركة أمل" مؤسسة خاصة، وبات الجنوبيون يعتبرون الأشغال التي تقوم بها مكرُمة حركية وتقدمة من الأستاذ قائد السلك الحركي.

فليس غريباً أن يكون الحركيون المستفيدون من المجلس هم أول من هب للدفاع عنه، لأن متظاهرين "تطاولوا" على سيرته الحركية على اعتبار أنه وكر للفساد ويجب محاسبة الفاسدين فيه، مثل بقية المؤسسات التي يعتصم أمامها المحتجون منذ اندلاع ثورة 17 تشرين.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024