الشارع إن حرّر الإعلام من السلطة والعائلات الحاكمة..

رنا نجار

الأربعاء 2019/11/13
ختم الصحافي والمسؤول الاعلامي في مؤسسة "سكايز" للحريات الاعلامية جاد شحرور حلقة النقاش التي أدارها حول "وضع الحريات الاعلامية وعدد الانتهاكات؟ أنواعها وأسبابها؟ ودور الاجهزة الامنية في القمع"، ليل الثلاثاء، في خيمة "لحقّي" في "باركينغ" اللعزارية، أن "الثورة مستمرة والداعم الاول لها الاعلام، فإذا الشارع تحرّر، يتحرّر الاعلام".


حلقات النقاش التي غصّت بطلاب جامعيين وتلامذة مدارس وشباب ومخضرمين وكبار في السن من مختلف الخلفيات المهنية، احتدمت وأثارت جدالات متنوعة حول كيفية تقييم إعلام السلطة للثورة وتدخّل الطوائف، والاحزاب والسياسيين والميليشيات مباشرة فيها او في تهديد بعض الصحافيين. ولا يمكن تجاهل أن هذه كانت المرّة الاولى التي تثار فيها قضية الإعلام بشكل مباشر في حلقات النقاش الدائرة اليوم بين ساحتي الشهداء ورياض الصلح في بيروت. والأهم أن الناس هربت من الخوف وكمّ الافواه، وباتت تأتي الى هذه الخيم كي "تفش" خلقها من "إعلام تقليدي، خصوصاً المتلفز، يشبه الكهل العجوز الذي يعيش على الموقويات"، كما قال أحد المهندسين المشاركين في النقاش.

وأوضح النقاش مدى وعي الثائرين والمعتصمين لما يحصل خلال السنوات الثلاث الاخيرة أي خلال عهد رئيس الجمهورية ميشال عون في تحوّل "الاعلام من منفتح الى حدّ ما، إلى بوق"، وكيف تحوّلت الحريات إلى قمع وانتهاكات غير مسبوقة "لدرجة بتنا نخاف من كتابة جملة في فايسبوك تنتقد أي سلطة في البلاد او أي  سياسي او مشروع سياسي"، كما قالت صبية مشاركة.

وفنّد شحرور هذه الانتهاكات التي رصدها مركز "سكايز" في عهد الرئيس عون، ووصلت الى 327 انتهاكاً تتنوّع بين التحقيق وحجز صحافيين او استدعاءات أمنية لناشطين ومدونين أو اعلاميين بسبب رأي كتبوه على صفحات "السوشال ميديا" وصولاً لمنع أفلام خصوصاً أن السلطة الدينية هي التي تبتّ بأمر المنع او السماح لعرض فيلم لبناني او عربي أو أجبني. كما اعترض بشكل حاسم على انتهاكات 4 أحكام سجن في حق صحافيين خلال سنوات العهد الحالي، رغم أنها لم تصل الى السجن في النهاية، معتبراً ان ذلك يعرّض مستوى الحريات كلها الى الانتهاك ويخفض من قيمة لطالما تمتّع بها لبنان. ثم أردف بصوت عالٍ: "ممنوع أن يُسجن صحافي لأنه كتب مقالاً، فالصحافي يجب أن تحميه القوى الأمنية ونقابته اذا كشف ملفاً فاسداً"، فصفّق المشاركون بحماسة عالية مؤيدين.



وتطرّق شحرور إلى أن "سكايز" رصدت خلال الأسبوعين الأولين للثورة فقط، 50 انتهاكاً أهمها، 21 حالة ضرب، 12 حالة منع تصوير، 10 حالات شتم ومضايقات، 6 حالات تكسير هواتف  وكاميرات، وحالتين تهديد، إضافة إلى إقالة مديرة الوكالة الوطنية لور سليمان "لأنها غطّت التظاهرات". بالإضافة إلى تسجيل 5 استقالات من جريدة "الاخبار" لصحافيين اعترضوا على سياسة الصحيفة المجحفة تجاه تغطية الثورة. كما نوّه شحرور بأن "الثورة رفعت سقف الاحتجاجات لدى الصحافيين والإعلاميين وشجّعتهم على التعبير عن قناعاتهم الحقيقية مجاهرة ولو على حساب قوتهم اليومي". فالثورة "فتحت للصحافيين مساحة للانتفاض على ذاتهم وعلى مدرائهم وأصحاب العمل وعلى زملائهم الميليشياويين وعلى كل من يهدّدهم برأيهم وعملهم. رفعت الثورة السقف في إعلاء الصوت الذي كان خامداً منذ سنين بسبب الخوف من فقدان العمل، وهذا أمر غير معهود على الاقل في السنوات الاخيرة"، كما علّقت إحدى المشاركات في "تجمّع نقابة الصحافة البديلة".

ولم ينسَ شحرور لفت الانتباه إلى كمية الأخبار المزيّفة الهائلة والشائعات والتهويلات التي انتشرت عبر تطبيقات مثل "واتس آب" ووسائل التواصل الاجتماعي وفي وسائل اعلام تابعة للسطة، منذ بداية الثورة وهي "تتكاثر وتصبح مباشرة كلّما اشتدّ عود الثورة وعود الثوار"، كما علّقت إحدى الإعلاميات المشاركة في النقاش. وانتقد شحرور الجدل الكبير الذي رافق أنواع تحركات الثورة والمواعظ التي انتشرت عبر وسائل الاعلام وكيفية شكلها وتكتيكاتها، وكأن الاعلاميين "خبراء عسكريين او قادة ثورات عالمية"، كما علّق أحد المتحمّسين المشاركين في اعتصامات مرج بسري والمعترض على تدخّل الاعلام بتحركات الناس معتبراً ان "الإعلام شغلو يغطي ويحاسب ويكشف الفساد مش يوقف طرف".

وكانت هناك أسئلة كثيرة حول "ماذا نفعل؟ من نصدّق؟ هل نكتب على وسائل التواصل وننسى مكتب جرائم المعلوماتية؟ وفي حال انتهت الثورة هل سيعتقلوننا على آراءنا؟" هذه الأسئلة جوبهت من قبل البعض معتبرين أن "الدولة يمكنها اعتقال شخص ولكن لا يمكنها اعتقال المئات والآلاف والملايين". ودعا رجل خمسيني المتحاورين إلى "كتابة كل ما يفضح السلطة ومن يشدّ على مشدّها وكل ما يكشف سرقاتهم وجرائمهم على المستويات كافة".

وهنا، طلب شحرور من الناس "عدم تصديق كل ما يصل عبر واتس آب أو أي تطبيق محادثات او حتى ينشر في الصحف ويبثّ عبر التلفزيونات والاذاعات، الأمر يحتاج الى الدقة والبحث ما وراء أي خبر قبل تناقله وتصديقه". ودعا الى مقاطعة أي معلومة تصلنا قبل الشكّ في أمرها، والتأكد منها من خلال الزملاء والاصدقاء او العائلة أو عبر مواقع الاخبار او صفحات الاعلام والمواقع الإلكترونية. وقاطعه أحدهم بالقول أن "البحث الدقيق يوصلنا الى الحقيقة، والسؤال واجب في هذه المرحلة". لكن صحافية قاطعته قائلة: "نحن كصحافيين أيضاً علينا واجب الدقة قبل القارئ والمشاهد، فالصحافة عليها ان تسهم في خلق رأي عام حرّ وأن تحارب الشائعات وتقاوم الأخبار الكاذبة "Fake news" التي قد تفرّق الثوار.

"الصحافي عليه ان يكون مسؤولاً ويرفض سياسات مؤسسته التحريرية اذا أخطأت، لكن مَن يحميه ومن يدافع عنه في وجه حيتان الفساد وقوة الطائفة والاجهزة الامنية؟"، سأل أحدهم. فأجاب شحرور أنه "من المفروض ان يكون لنقابة المحرّرين دور مهم وفعال لذلك، لكنها مستقيلة من هذا الدور لأنها بدورها تابعة للسطة وتمثّل طوائف وأحزاباً وليس لديها أًصلاً آليات انتساب واضحة وهي ترفض إدخال صحافيين الاعلام الالكتروني وصحافيي العمل الحرّ وكل من ليس لديهم ضمان اجتماعي وما أكثرهم هذه الايام". وهنا تطرّق الى أهمية إيجاد نقابة بديلة اليوم أكثر من أي يوم مضى، وهو ما بدأ فيه صحافيون وصحافيات تحت مسى "تجمّع نقابة الصحافة البديلة" الذي أعلن نفسه كجزء من الثورة وتحت سقف مطابلها المحقة. وأعلن شحرور أنه يتابع عمل هذا التجمع الذي ستكون له تحركات مطلبية في الايام المقبلة وهو يجري استشارات قانونية لإمكانية تفعيل نقابة الصحافة البديلة ليكون لها دور فعال على الأرض ولا تقتصر على البيانات والفيديوهات فقط، بدءاً من رصد الانتهاكات داخل المؤسسات الإعلامية وصولاً إلى الانتهاكات من قبل السلطة، الى رفض التعامل مع الجسم الصحافي بخفّة واستنسابية كما فعل حاكم مصرف لبنان الذي استنسب دعوة صحافيين يراهم أهل بنظره لتغطية مؤتمر ينتظره كل اللبنانيين.

لا إعلام مُعارِضاً في لبنان
وأرجع شحرور، الذي عمل صحافياً في أكثر من مؤسسة، التخلخل الحاصل في التغطيات الاعلامية التقليدية اليوم، إلى غياب الإعلام المعارض لأن 43% من التلفزيونات مملوكة من 12 عائلة سياسية أو مسيّسة خارجهم، ولا مؤسسة لا يتدخل فيها جهاز أمني أو حزبي أو ديني. ووصف شحرور المواد الصادرة عن المؤسسات الاعلامية بغالبيتها في لبنان بأنها "أخبار طوائف وأحزاب". وأعطى أمثلة على ذلك: "اتفق الثنائي الشيعي"، شارحاً ان هذا التعبير أو المصطلح هو طائفي ولا يحترم معايير المهنة.


وبدأ شحرور مداخلته بمقدمة مهمة حول من يملك الإعلام في لبنان، مؤكداً أن البلد يتمتّع بمشهد إعلامي فائق التسييس، حيث يملك عدد من الشخصيات السياسية أو الأحزاب الناشطة نحو ثلثَي وسائل الإعلام المشمولة بالمسح الذي قامت به مؤسسة "سكايز". كما تُسيطر ثماني عائلات لها مصالحها السياسية على وسائل الإعلام الأكثر شعبية في كل قطاع، ما يُعزّز الاستقطاب الحاصل في المشهد الإعلامي. علماً أن قطاع المحطّات التلفزيونية هو الأكثر شعبية على مستوى الأخبار. وتستحوذ الشركات الأربع الأهم على مجموع 78.1% من نِسب المشاهَدة. ومن بين المحطّات التلفزيونية الوطنية التسع، ستّ محطّات تملكها الدولة أو أنها مملوكة بصورة كاملة أو جزئية من جانب سياسيين ناشطين حالياً، ومحطّتان مملوكتان من جانب شخصيات سياسية سابقة أو طامحين للعمل النيابي، ومحطة واحدة يملكها حزب سياسي.

إلى ذلك، يشهد قطاع الإذاعات نسبة تركّز عالية أيضاً، حيث تستحوذ الشركات الأربع الأهم على 72% من المستمعين. وهو قطاع شديد التسييس كذلك نظراً إلى أن أربع إذاعات مملوكة من جانب أحزاب سياسية، وثلاثاً من جانب الدولة أو وزراء ونوّاب حاليين. فيما يتّسم قطاع المطبوعات بدرجة تركز عالية، حيث تستحوذ الشركات الأربع الأهم على 77.9% من القرّاء. وتجدر الإشارة إلى أن معظم أصحاب وسائل الإعلام المطبوعة لهم انتماءات سياسية محدّدة. وتعود الملكية الكاملة أو المشتركة لستّ من هذه الوسائل لسياسيين ناشطين حالياً، واثنتين لمرشحَين نيابيين سابقَين، وأخرى مملوكة مباشرة من جانب حزب سياسي.

ويشهد قطاع وسائل الإعلام الإلكترونية بدوره تسييساً قوياً، حيث يطغى الانتماء السياسي على أربعة من بين المواقع الإلكترونية العشرة المشمولة بالمسح. وتعود الملكية المباشرة لموقعَين إلى حزبَين سياسيَّين، ويملك نائب حالي موقعاً ثالثاً، فيما يملك مرشح نيابي سابق موقعاً رابعاً.

وأكد شحرور ان كل وسيلة إعلامية مشمولة بمسح "سكايز" تنتمي تقريباً إلى كيان قانوني منفصل، إلاّ أن 12 عائلة مشاركة في ملكية وسائل الإعلام تعود أسماؤها في لوائح المساهمين في العديد من هذه الوسائل، ما يمنحها قوة التأثير على الرأي العام. والعائلات هي: تويني، الحريري، عون، فارس، خياط، ضاهر، سعد، الخازن، إدة، فرعون، سلام، المر. ولدى تسليط الضوء على هذه العائلات، تبرز توجهات ثلاثة: أولاً، عائلات تعمل في قطاع الإعلام منذ عقود وقد دخلت الحياة السياسية بعد بناء اسم قوي لها في الوسط الإعلامي. ثانياً، عائلات بدأت المشاركة في الحياة العامة من خلال السياسة ثم استثمرت لاحقاً في قطاع الإعلام كسبيل لكسب المزيد من التأثير. ثالثاً، عائلات دأبت على ممارسة الأمرين بصورة متوازية فكان دورها السياسي مدعوماً دوماً بحضورها في قطاع الإعلام، ويشمل الحديث هنا عائلتي إدة وفرعون اللتين تملكان مجموعة "اوريان لو جور" وتوابعها.

ولفت شحرور الى أن عدد أصحاب وسائل الإعلام من السيدات منخفض بصورة مقلقة.


المواطن الصحافي وثّق الثورة
في الملخص، وصل المتحاورون إلى نتيجة مفادها أن الثورة مستمرة والداعم الأول لها الاعلام الذي فرضت الثورة نفسها عليه فأصبح مجبوراً على تغطيتها وملتزماً بصوتها، خصوصاً تلفزيون "الجديد" الذي استمرّ في كشف ملفات الفساد يومياً رغم بعض الملاحظات. وكما قال شحرور: "في ظل غياب الاعلام المعارض، لا بد من التنويه بدور لا بأس به للإعلام الكلاسيكي خصوصاً في بداية الثورة، فقد تخلّلته بعض الشوائب بنقل مشاهد تساهم في انقسام المتظاهرين".


ويبقى دور إعلام المواطن الذي تحوّلت صفحاته في مواقع التواصل الاجتماعي الى صفحات إخبارية ووثّق ما يحصل في الشارع وما يطالب به الناس، هو الاهم. وبحسب شحرور: "هذا التوثيق هو لذاكرة جماعية من قبل مواطنين ثوار أحرار علّوا أصواتهم وتناسوا الاعلام التقليدي من دون أي كلفة مادية وبطريقة واضحة وسهلة ومتاحة للجميع".

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024