كل هذا الحزن السريع!

زكي محفوض

الخميس 2021/01/21
إنها السادسة مساءً. حان موعد الرسوم المتحركة على القناة 7 لـ"تلفزيون لبنان". وكنت أنتظر بفارغ الصبر، "هاكل أند جاكل"، الغرابَين صاحبَي المقالب، السمجَين والمضحكَين. كنا نسكن كثراً في بيت عمّي حسن في قرية الشيخ محمد بعكّار شمالاً. قبل قليل دخل أهلي، عمي وزوجته وأمي وأبي وخالتي. استغربتُ قليلاً حضور خالتي، فهي لا تأتي إلى القرية إلاّ في الأعياد. لكن، حسناً فعَلَت، فحقيبتها دائماً مليئة بالسكاكر ويدها مُغدِقة.

هرعت النساء الثلاث إلى غرف النوم ليخلعن التايّور الأسود، ويرتحن من الكعوب العالية، ويتخلّصن من الشينيون - وهو تسريحة درجت في تلك الأيام، وفيها يُكتَّل الشعر بشكل كرة تثبّت على رأس الرأس، كالقَمْعة (أو القاموع، ومعناها مَعْلَم من حجارة مكدّس بعضها فوق بعض).

سمِعتُهنّ، بأصوات عابرة للغرف، ينتقدن فلانة على كولونها الرمادي بدلاً من الأسود الحالك، وعلاّنة على مبالغتها في العويل. ثم تقطعت أصواتهن بينما كن مستمرات في الكلام، إذ تلاقَين عند عتبات الغرف، ورحن "يتغشغشن" بالتأكيد على أمور تحمرّ لها الوجنتان.

ثم سمعت أبي وعمّي يتهامسان ضاحكَين ضحكاً مكتوماً: "يللاه… مستعجلات على تفكيك القاموع. اليوم كان حجمه زائداً عن حده"، ثم تفاقم ضحكهما ولمّا اقترب من القهقهة، أسرعا إلى الشرفة وأطلقاها مدوّية في اتجاه الوادي، راجيَيْن المولى أن لا يسمعها أحد، فالقرية كلها في حالة حزن.

أمام هذا المشهد الفكاهي المريح، مددتُ إصبعي وضغطتُ على زر كبير لإضاءة التلفزيون، فإذا بمذيعة الربط تتلو برامج الليلة. ثم تراجعتُ واسترخيتُ على الكنبة ألوح بساقيّ في الهواء. وبعد قليل، صدحت موسيقى الشارة لـ"هاكل أند جاكل"، وفي تلك اللحظة بالذات لم أحس وأدرِ إلاّ بالتلفزيون وقد انطفأ، وظهرت النساء الثلاث عابسات في وجهي، شُعورُهن منكّشة وحافيات، وأمي تحمل الشحّاطة وتهزّها متوعّدة. أبي وعمّي ظهرا خلفي، وهزّ لي أبي طرف أذني بلطف منبّهاً: "ألا تعرف أن ستّك أم جميل توفّت؟".. لا هي جدتي ولا أعرفها، كما أن أولادها وبناتها كانوا قد أمسوا وقتها جدوداً وجدّات.

كان ذلك في ستينيات القرن العشرين، حين كان الحزن يرخي بثقله على منطقة كاملة وجوارها. لا تلفزيون. لا راديو إلاّ همساً، وللأخبار فقط. النساء بثياب سود "غطس"، العروس الجديدة معفاة من ارتدائها. فكّ مظاهر الحزن يبدأ زمنياً من الأبعَدين إلى الأقرَبين، ولكن ليس قبل الأربعين. السفر لأفراد العائلة والجيران القريبين مقبول، لكن لا بد من استسماح المحزونين. عقد القران وكل ما قد يُحدِث كَشْراً عن الأسنان أو صخباً… ممنوع! وفي حال تعددت الوفيات في فترات زمنية متقاربة، يبدأ العدّ من جديد منذ حدوث كل منها. والمناطق التي تكثر فيها الوفيات بسبب الثارات، كانت نساؤها دائمات الاتشاح بالسواد. أما الموت في ريعان الشباب فحمله ثقيل على الجميع وحزنه عميم.

في المدن، كطرابلس وبيروت، يتقلّص الحدث الجلل ومراسمه ومظاهر الحزن وممارسة التقاليد… وينحصر داخل علب السكن الإسمنتية. ومع اندلاع الحروب المتتالية أمسى الحزن رهناً باستراحة المتحاربين وصار أسرع وأرشق في الاعتمال والاختفاء، فلا وقت للحزن بينما الموت يطارد أهل الفقيد/ة والصحب من كل صوب. ومع تكاثر الميتات، أصيبت القلوب بالتخمة وتعطّل جَيَشان المشاعر حتى جفّت.

بيد أن ذلك كله كان في كفّة، و"وقفة الأخذ بالخاطر" (أي تقديم العزاء) في كفّة أخرى: ذلك الصف من المعزّين الذين يتحوّل وجه كل منهم ومنهن سريعاً إلى "مُود" الزعل، صادقاً كان أم كاذباً. أرتال من الناس تترقرق في ممرات القاعة، يتسايرون أثناء تقدّمهم للتعزية. وعندما يبلغون تخوم حيّز العزاء، ينقعد الحاجبان ويميل الرأس الى الأمام خشوعاً وتتكّتف الذراعان. وينتهي ذلك المسير الوقور بتربيتة خفيفة على الصدر أو مصافحة شديدة أو تقبيل أو عناق، بينما تُسمع همهمات من قبيل "العوض بسـ" و"عظّم اللـ" و" الله يرحمـ"... وفور اجتياز الحيز تتنفّس الوجوه الصعداء وتستريح قسماتها.

أحسب أن المصمّم الياباني شيغيتاكا كوريتا، الذي اخترع الإيموجي (تلك الوجوه الصفراء المعبّرة بالنيابة عنّا)، حضر مناسبات عزاء كثيرة في بلدان مختلفة قبل أن يتحفنا بالمشاعر الرقمية الجيّاشة.

في هذه الأيام، بات الحزن سريعاً جداً بسبب كثرة الموت الفعلي والمعنوي وبفضل "الإيموجي". وتقديم العزاء بات سهلاً جداً، لكن الوسيلة الحديثة لتقديمه تجعل صدق المشاعر يلتبس على كل من المعزِّي والمعزَّى. فما أن يعلن واحدنا وفاة عزيز عليه (أب، عمّة، صديقة، جار...) حتى تشرئب سباباتنا ونبدأ بالضغط على "أعجبني" أو "القلب" أو الوجه الدامع… وخذوا على عويل افتراضي مكتوم الصوت ومكتوم الإحساس في الاتجاهين. الكاذب يتصرّف كمن انزاح حمل عن ظهره. والصادق يتلبّسه شعور بالتقصير.

والهمهمات التي كانت تُسمع أثناء العزاء الوجاهي، حلت محلّها أسمى آيات العزاء المنقولة من المصادر إلى خاصة الفقيد/ة، بتقنية "كوبي-بايست"، وأحياناً تبقى كما هي مزيّنة بحركات التشكيل. وثمة من يعبِّر عن حقيقة ما في قلبه بكلماته البسيطة… وأما الأخطاء الإملائية والمطبعية، أكانت بسبب جهل أم تقنية الاوتوكورّيكت، إضافة إلى الـ3arabizi، فتزيد من عبثية العزاء الرقمي… وللمخيّلة العنان!

غير أن ثمة شعوراً مستجداً بالصداقة وحسن المعرفة لم يكن معهوداً، ويتجلى في الإحساس بحقيقة صداقة افتراضية تكون تخطّت تسمية "فريند" الصمّاء. وحسنة هذا الإحساس أن الصداقة تكون نمت من بُعد، بفضل ما انكشف من داخل ذلك الصديق الغائب… والأيام كفيلة بتوطيد العلاقة أو بفضح زيفها.

لا بد من إيجاد طريقة لتطعيم العادات والتقاليد المستجدّة بفضل تكنولوجيا متطوّرة بعناصر من الواقع. تخيّلوا معي: صديق فَقَد عزيزاً، ويقطن في منطقة ليست بعيدة. والأجواء "كورونية" تفرض التباعد الآمن، وأنت تلتزم بذلك. لا ضير في أن تبادر وتتوجّه إلى حيث الصديق وتطلب منه أن يطل من الشرفة او ينزل الى المدخل لتقدّم له العزاء علانية وتجبر خاطره المكسور وجهاً لوجه وعلى مسافة آمنة، ولو اقتضى ذلك صراخاً… ثمة أمر ملحّ يستدعي تحيّن الفرص لتحجيم ارتباطنا بـ"زووم".
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024