يقول المغترب في سِرِّه: هذا الوطن ما زال يؤلمني

آية الراوي

الجمعة 2020/01/24
قصدتُ المطار باكراً على غير عادتي، إذ كانت الطريق مقطوعة على كورنيش المزرعة والكولا. قلت للسائق أن يذهب إلى البحر أولاً، كي أتنشّق الملح والغروب، علّني أهدأ قبل السفر. في المطار أشعر بالإنهاك، بالحزن، أنتظر دوري في الطابور وعيني متربّصة بالهاتف أنتظر أخبار الرفاق. 

بعد أكثر من شهرين على زيارتي بيروت، منذ اندلاع الانتفاضة في تشرين، أصبح عليّ التعامل مع واقع داخليّ جديد، مع تغييرٍ حلّ على كيمياء الروح، يطرح أبجدية جديدة للوجود والتعايش. بعد سنوات من اللامبالاة، استعدنا الانتماء إلى هذا الكيان الصاخب بذاكرةٍ أليمة، بأحلام ضائعة وجروح بدأت تلتئم، أي ما نسميه وطناً. في غياب المعنى أو تشرذمِه، الثورة أصبحت هي المعنى. بعد الاستلاب إلى العدم، تأتي الثورة لتُعيدك إلى المعدن. أيام مرت كسنوات أو ثوانٍ. فيها تعرَفنا على عشرات الأشخاص، مشينا في شوارع لم نكن نعرفها، أعدنا اكتشاف أصدقاء قدامى، ضحكنا وبكينا في شوارع كانت لنا مجهولة وأصبحت مأوى...

صُور انطبعت في ذاكرتنا لتكتسب وهجاً جديداً، بعدما نفضناها من غبار ماضٍ لم يكن بالبعيد. حالات كُتِبت في الوجدان بأحرف من نار: النساء وهن يرمين الأرز من شرفات منازل الخندق الغميق، الأطفال الذين حفظوا الهتافات غيباً، العمل المتواصل والسهر والاعتصامات والاجتماعات والمسيرات. الهلع. الغضب. التعب. الفرح. الكآبة أيضاً. الكر والفر. الخيبة ومعها الأمل في تزامنٍ عجيب. خيم اللعازارية. النشوة وفورة المشاعر ووضوح الرؤية على الرغم من غموض المستقبل. الساحة ثم الساحة. الجدران المطليّة بآلام الناس وأحلامها، بِسخطها وسخريتها. الشارع عندما توحّد هتافاً وأهدافاً. الرفاق المصابون ولحظة الإفراج عن البعض. رائحة الغاز والبصل. استحالة النوم ونوبات القلق.

يقول المغترب في سرّه: هذا الوطن ما زال يؤلمني. سنوات من محاولة تحرير النفس من قيود الانتماء، باءت بالفشل. الإنسانية عابرة للأوطان والأجناس والأعراق… نعم، مفاهيم كونيّة جميلة، أصدقائي في إسبانيا أحبهم، في هذه البلاد تعلمت الكثير وشكّلت جزءاً من هويتي. لكني أريد أن أحدّق في عيون تتماهى مع حزن المدينة، وتفصح عن مكنوناتها بلا خجل أو حياء. أفهمها وتفهمني. أن أمشي في شوارع أصبحت ناطقة بلسان أهلها بعدما أخرسها طغيان الخوف على نفوسهم، بعدما لفظتهم إلى الخارج وإلى أحزمة البؤس. كيف لي أن أعود إلى حياة الاغتراب بهدوئها وأزماتها الوجودية ومشاكلها العبثية المقنّعة براحة البال؟

ينتظرني عند الوصول، الصقيع والوحدة، ولغة كادت تصبح مألوفة، وتبدو الآن غريبة وغوغائية. أناسٌ لا يربطك بهم إلاّ بعض الأذواق المشتركة، وفي أحسن الحالات صداقة صافية تتجلّى في مواضيع كالحب والموسيقى والشعر. تذكرتُ أن لوركا كان سبب هجرتي إلى هذه البلاد وتعلّمي لغتها. لوركا الذي مات رمياً برصاص نظام فرانكو، وحيداً وحُرّاً قرب شجرة زيتون في قرية نائية شمالي غرناطة. أحفادك يا لوركا الآن في بيروت، ليسوا في مدريد ولا في غرناطة. هم في شوارع الحمرا، والبلد، وساحات البقاع والشمال… يصرخون بما صرخت ويحلمون بما حلمت.

تحت شرفتي، يتناقش أناسٌ في أكل كلابهم، يصرخ جاري بزوجته المجنونة، شباب يدخنون الماريجوانا ويشتُمون اليمين المسيحي. سوق الأحد ملأى بالباعة الغجر ينادون على بضائعهم صينية الصنع. ساحة "تيرسو دي مولينا" ومحلات الورد، المهاجرون والعمّال وبائع المخدرات المتربص بالسائحات الشقراوات، ضحك السُكارى عند الفجر، المترو وعيون الناس الفاغرة. زحمة "المولات" وضجرها الرهيب. أحاديث المثقفين في مؤتمرٍ أو معرض. كل هذا لطيف ولكن... حالنا حال العاشق بعد مفارقته مكان اللقاء، يحاول ترميم بقايا ذاته، بالذكريات والأمل والغضب، آملاً في العودة.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024