موسيقى السلطة ومهرّجوها

إيناس عزي

الثلاثاء 2019/12/10
أسامة، الذي كان يقطن في بناء مجاور لنا، هدّد ذات يوم بإلقاء نفسه من الطابق الرابع، إذا لم يتمكن من الزواج بحبيبته. لكنّه، نزل الأدراج خائباً، لأن أحداً لم يكترث لمأساته أو لحبه، وربما لبقائه حياً. أسامة، وفي ما يُشبه الإنتقام، بات يقض مضاجع الحارة بأكملها، بأغاني جورج وسوف، بصوت مرتفع، ليلاً ونهاراً.

بعد سنوات، عَبَر أسامة المتوسط، إلى أوروبا، هارباً من التجنيد في الجيش السوري، ومِن الحرب والحب. ومعه خَفَتَ صوت جورج وسوف، وأراحنا من التلوث السمعي، من صوت التينور المريض، الذي تحول أثناء الحرب إلى مهرّجٍ للسلطة.

إمكانات مالية دسمة، كلمات مُكررة ركيكة، خيال جاف، وألحان صاخبة ترتفع مُحاولةً التأثير وإخفاء الحقيقة. هذه عُدّة عمل المنتجين الفنيين الحالية في حفلة التهريج المتواصلة منذ سنوات. ميادة الحناوي، علي الديك.. لبنانيون أيضاً يشاركون: أيمن زبيب، ملحم زين وفارس كرم.

في الجانب الآخر، وبأقل القليل، وبغرفة فقيرة وأسنان مكسورة، حصد الكناوي المغربي، ملايين المشاهدات في خلال ثلاثة أيام فقط.

"باسم الشعب، عاش الشعب، عاش الي درويش".

لا مدح ولا تَكسُب، كلمات نابعة من القلب، ألم وخيبة وفقر، وكل جزء صغير في الأغنية أشبه بقصيدة هايكو 俳句 يابانية، بضع كلمات كافية لإيصال المعنى. والفَصل المُلزم في القصيدة اليابانية هنا هو فصل التفاهة، أو "عهد العرص" كما يغني رامي عصام: "في السجن أخواتنا كوام لحمة والعرص بيحكم بجدارة".

فصل هدر الإنسان.. هدر دمه جسده وفكره، ومعناه.

"أنا المقصح، أنا المذبوح، أنا المهضوم". على إيقاع الراب، يعيد الرابر المغربي الحكاية، حكاية المغرب، مصر، ليبيا، الجزائر، لبنان، العراق، وسوريا ....وبلاد كثيرة.

كلمات تقع بين الكلام والشعر والنثر والغناء، ويمكن إلقاؤها بلا موسيقى، كلمات فقط، وهي المفتاح، هي البداية والمحرّك الأعظم.

محمد علي كلاي، الذي رفض أن يقاتل في فيتنام، اخترع أقصر قصيدة في الأدب العالمي: "we, me".

وفي لبنان أيضاً ابتكر الشعب كلماته: "هيلا هيلا هو.." بضعة حروف وكلمات، لكنها تعني الكثير وتناسب تماماً الخصم، على مقاسه وبِقدرِه. بعد "الهيلا هو" بشهر واحد، سقط علاء أبو فخر، شهيد لبنان الثاني، شهيداً لخوف السلطة وذعرها.

تعيدنا الرصاصة نفسها سنوات للوراء. محمد الجوابرة، شهيد الثورة السورية الأول، وتُغني الذاكرة بصوت منخفض: "ظهرك للعادي وعليّ هاجم بالسيف". كلمات حفرت عميقاً في ذاكرة السوريين، كلمات بدايتهم التي لم تنته بعد، والتي ستقودهم يوماً ما إلى جنتهم المُتخيلة.. "جنة جنة جنة.. جنّة يا وطننا".

"غنّ لي أغنية.. أقل لك من أنت"، يقول رسول حمزاتوف، وهو لسان حال الأسطورة محمد رمضان، البلطجي "نمبر وان"، وأقوى كارت في مصر. "هُمّا عايزينها فوضى"، فالمؤامرة على مصر، حسب أغنيته، لا تقل خطورةً عن المؤامرة على باقي الشعوب المجاورة. يتحدث بلسان السلطة، وهو يُحدث ضجيجاً وتلوثاً في حفلة ركاكة وتفاهة بالصوت والصورة والكلمة.

يُحكى أنه في مكان ليس بعيداً من هنا، أُقيمت حفلة زفافٍ باذخة لأبناء لصوص. ملايين الدولارات، فودكا وكافيار وألماس، وكان من المفترض أن تُختتم الحفلة بالنشيد الرسمي، لكن "الدي جي" كان فطناً، استبدله بأغنية الشيخ إمام: "شيّد قصورك ع المزارع من كدّنا وعمل أيدينا... وافلت كلابك في الشوارع واقفل زنازينك علينا".

في لبنان، أكمل "الدي جي": "عمال وفلاحين وطلبة، دقت ساعتنا وابتدينا".

منذ أسابيع، هزت جماهير اتحاد طنجة، المدرجات، صارخةً بصوت واحد: "هذي بلاد الحقرة، ودموعنا فيها سالوا".

سالت الدماء والدموع، والحياة نفسها سالت وتسيل في هذه الأمكنة، بلا قيمة وبلا حساب.

لا أعرف إن كانت مياه المتوسط قد غسلت ذاكرة أسامة الموسيقية. لكن ما أعرفه أن باستطاعتنا أن ننام بعمق ونَحلم، بأن عربات "التوك توك" التي أنقذت المتظاهرين في العراق، وزعت الماء والدواء، وأسعفت الجرحى، قررت أن تغير عملها: فجَمعت كل هؤلاء الفاسدين المجرمين المعتوهين، وقادتهم إلى مكان بعيد بعيد جداً، خارج المكان والزمان، قادتهم "كلن يعني كلن"، ومعهم موسيقى السلطة والمهرجون.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024