حكاية رجُلَين: "خير" و"شر"

إيناس عزي

السبت 2021/10/09
هناك، الرجل "خير" الذي ينجو وينتصر، والآخر "شر" الذي ينتهي ذليلاً مهزوماً. هناك في حكاية أبي، الشر هو شخص مجرد يخسر جولته الأخيرة دائماً أمام الخير. كنا نجتمع حوله ولا نضجر من حكاياه، من حلاوة أحاديثه وطرافتها، من ذاكرة مذهلة تسافر بنا عبر الزمن، ومن أسئلة تدفعنا للتفكير والتأمل. كنت أتمنى أن يستمر ويتكرر انقطاع التيار المُفاجئ حتى لا تنتهي تلك اللحظات. بيديه كان يصنع مع ضوء الشموع ظلالاً على الجدران تكبر وتصغر وتتبدل، لننبهر حين تُكون ظلاً لما سبق وعرفناه. وبدلاً من الخروج من كهفنا، كنت أتمنى البقاء، بالنسبة إلي كان ذلك هو عالم المُثُل.

حين دفعتني مشرفة الروضة لأدخل، لأنني لم أسمع صوتها، وأنا ابنة الرابعة الغارقة تماماً في مشهد أب يحتضن ابنه ويغادران معاً، حينها بدأت أتعرف على الشر. عرفته في المعلمة الشرسة التي كانت تضربنا بكل قواها وتحول أحلامنا الصغيرة إلى كوابيس، في معلم الصف الثاني الذي كان يضع كرسيه عند الباب ليدرس لامتحانات كلية الحقوق مديراً ظهره لكل قوانين العالم الأخلاقية. في المقابل، كان المعلم في عالمي يترك أناه في الخارج، يُعلّم في كل مرة كما لو أنّها المرة الأولى، يعدل بين تلاميذه ويحفظ أسماءهم جميعاً، ولا يخضع إلا للقانون الأخلاقي داخل نفسه.

أدركت مع الوقت أنني سأصادف الشر أينما ذهبت، في كل مكان وزمان. وصرت أتساءل، هل يُخلق الإنسان شريراً؟ أم يصير كذلك بإرادته وحريته؟ وما الفرق بين من يحمل القنابل العنقودية وحده مجازفاً بحياته، ويفجرها بدقة في تل الحارة لينقذ عشرات الأرواح؟ ومن يُطلق الصواريخ والقنابل والرصاص الحي على أبناء شعبه؟ عقود تمتد بين "حرب تشرين" وسنواتنا الأخيرة، وفجوة أخلاقية لا متناهية بين الوجه الأقبح للشر، وبين عالم المُثل... عالم المثل هو هناك على سفح الجبل، متحرراً من كل القيود، وحراً. هناك حيث أمضى أبي الكثير من حياته، ولا يزال، يتأمل المدينة التي ولِد بين بيوتها الحجرية القديمة، يُراقبها وهي تكبر وتتفسخ وتبتلع أبناءها الطيبين. أُشير إلى صدري وأنا بالكاد أستطيع التنفس، لم أصحُ من التخدير بعد، "كُنتَ هناك تنظر إليّ عبر النافذة المدورة قبل بدء العملية" أقولها لأبي، وأُغمض عينيّ مجدداً. أيُّ عالم هذا! أن لا أعرف سبب ألمي، أن أسقط في هاوية مظلمة كلما أغمضت عينيّ، أن لا أجد سريراً في المستشفى، أن أتبع حدسي لا كلام الأطباء. لأتمكن من النجاة من أيديهم المستعجلة لإجراء الجراحة، وأن يعالجني وينقذني، عبر "الواتسآب"، طبيب صديق يعمل في الكويت.

"سَأُمسك عن إتيان أيِّ شر أو اقتراف أيِّ ظلم" يصرخ أبقراط أبو الطب، ولا يسمعه أحد هنا. للشر صخب وضجيج أقوى بكثير. لكنه أحياناً يُتجول صامتاً، يُنهي أحلام المئات ويتركهم بلا أرواح، أطفالاً ونساء، عائلات بأكملها كما فعل هنا، أمام أنظار العالم. أصحو من الهلوسة لأعرف أنّي نجوت، وأن ثلاثة آخرين قضوا في "شهبا" ولا ذنب لهم سوى مقاومة الشر.

للشرّ أتباع، له رصاص وأسلحة وجيوش، أفراد وجماعات ودول. للشرّ شيوخ أيضاً، يختبىء تحت عباءاتهم السوداء المليئة بالأسرار، يَعدون بمحاسبة المجرمين، يمسكون أيدي بعضهم البعض، ولا يفعلون شيئاً سوى المراوغة والدهاء والنفاق. الشر هنا لم يعد مرئياً، صرنا نعيش داخله، نصارع شباكه التي تلتف حولنا لتخنقنا. على الجسر الحديدي الذي لا يمر فوقه أحد، تُعلّق صورهم، تُرسم وجوههم على الجدران ليمحوها الشر مسرعاً وخائفاً، ولا يبقى سوى الفضاء الالكتروني لنكتب فيه لأجل الخير، لأجل ضحاياه. أنظر حولي ولا أرى إلا العنف والعدوانية والكراهية، قتل وخطف وخوف، فقر وجوع وعجز، وانتحار. من أين جاء كل هذا الشر؟ لماذا هو موجود أصلاً؟ هل هو مجرد تصور عقلي أو مقولة أخلاقية؟ هل نملك القدرة على مقاومته؟ أم علينا التعايش معه؟ لا يؤمن أفلوطين بوجود الشر بل هو خير ضروري للنظام العام، "من يعرف الخير لا يقدم على الباطل"، يقول سقراط، هو "غياب الفكر" كما وصفته حنة ارندت في حالة ايخمان، هو ثقب أسود يلتهم كل شيء، ولا يترك سوى رعب المطلق اللاإنساني. وفي الزرادشتية صراع الخير والشر متواصل، وفي نهاية المطاف، ينتصر الخير على الشر انتصاراً نهائياً. في الإنجيل مملكة السماء هي نهاية الصراع العظيم على هذه الأرض.

لم تفقد حكايا أبي المُستعادة سحرها، ولا أزال للآن أستمع إليها مع أولادي، وأتخيل "الخير" كما كنت أتخيله منذ عقود، رجلاً ذكياً يَنشر البهجة والمعرفة والطمأنينة، رجلاً له عينان بلون السماء كعيني أبي..

لا أعرف صورة الخير التي ترتسم في أخيلتهم، لكنهم يعرفون جيداً منذ الآن أن الشر هو في القلق الدائم من تأخرهم ولو لدقائق قليلة، من أسلحة يحملها أطفال بعمرهم، وقوف العشرات وعراكهم للحصول على ربطة خبز، أكوام النفايات حولنا، القوانين اللاإنسانية التي نخضع لها، صوت الرصاص الليلي، عماء كامل لساعات طويلة يومياً، ظُلمة لا تقوى حكايا العالم كلها أن تملأها أو تضيئها.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024