"منقدر": تقريع السوريين على "فشلهم"

وليد بركسية

السبت 2019/02/02
"تحذير +18.. إن هذا البرنامج يحتوي على جرعة تفاؤل عالية.. وجب التنويه".
بهذه العبارة تبدأ حلقات برنامج "منقدر" يومياً على قناة "لنا" الموالية للنظام السوري، وتحمّل، بكل وقاحة، المشاهد المسكين ذنب متابعته للبرنامج، لإيصال رسالة وحيدة تفيد بأن السوريين "المحبطين" هم سبب مشاكلهم الخاصة المتراكمة عبر العقود الماضية، بسبب "قلة طموحهم" و"عدم تفكيرهم خارج الصندوق".


البرنامج من تقديم الممثل المغمور علي بوشناق. وفيما يبدو للوهلة الأولى أنه محاولة فاشلة لتقديم برامج "ستاند آب كوميدي" على غرار الموضة الدارجة في المحطات العربية منذ العام 2011، إلا أن البرنامج الذي تتراوح مدة حلقاته بين 5 و8 دقائق، يتخذ نمطاً مختلفاً بالتركيز على موضوع الطاقة الإيجابية والتفاؤل وقصص النجاح لشخصيات مشهورة عبر التاريخ.

المشكلة في البرنامج أنه يلقي باللوم، في الكثير من قضايا الشأن العام، على الشعب السوري نفسه، بدلاً من لوم مرافق للدولة السورية المهترئة والضعيفة، رغم كل ما يعانيه السوريون، داخل سوريا وخارجها، من ضغوط اقتصادية وسياسية واجتماعية. كما يحول كل مشاكل البلاد التي تعوق الإبداع والطموح، إلى مسألة شخصية، بدلاً من كونها قضية عامة تشكل جزءاً من الأسلوب البعثي في حكم البلاد، والقائم منذ عقود على خنق السوريين اقتصادياً ومعيشياً وتعبيرياً، لمنعهم من تحدي السلطات والمطالبة بحقوقهم الطبيعية، علماً أن ذلك نهج عام لدى كافة وسائل الإعلام الرسمي وشبه الرسمي عموماً.

بدا ذلك واضحاً في الحلقة التي بثها البرنامج عن أزمة الغاز في سوريا منذ أكثر من شهر، والتي كسر فيها نمط الحديث عن المشاهير لصالح التعليق على قضايا حدثية ومثيرة للجدل، من دون التخلي عن جوهر البرنامج بتحميل السوريين أنفسهم مسؤولية وجود أزمة غاز. أما الحل السحري الذي تم تقديمه للمحرومين من الغاز، فهو الصبر، مع التهكم: "هيك الحياة شو بدنا نعمل، شي بغاز شي بلا غاز، معليش شوي شوي بيطلعلنا انشالله"، قبل مساءلة المدنيين عن عدم اقتدائهم بنماذج لأفراد في دول نائية يصنعون الغاز بأنفسهم بطريقة بدائية من السماد الطبيعي!


ويجب القول أنه يفترض بالبرامج التي تطرح نفسها كساخرة وناقدة أو إيجابية أن تكون قوية وجريئة في طروحاتها من دون خشية من تخطي الخطوط الحُمر. ويجب عليها أن تنقد بفجاجة وقسوة دون مواربة كل النقاط التي لا يتجرأ أحد في البرامج الأخرى على طرحها. فالسخرية هي إحدى أعلى درجات النقد وأكثرها تأثيراً، لكنها تتحول في البرنامج إلى نسخة مشوهة، لا تقدم شيئاً ولا حتى التسلية، خصوصاً أنها تقدم معلومات ناقصة، وبالتحديد الظروف العامة في الدول المتحضرة التي تجري فيها القصص الفردية لعلماء بارزين أو نجوم مشهورين. ولا يختلف الحال هنا بين الممثل سلفيستر ستالون في الولايات المتحدة، أو نجم كرة القدم روبرتو كارلوس في البرازيل، حيث تشكل تلك القصص الملهمة فعلاً جزءاً من سيستم كامل للحياة، وليست حدثاً خارقاً بحد ذاته.

وعندما انطلقت قناة "لنا" الموالية للنظام السوري العام الماضي، أعلنت عن نفسها كمشروع لدعم الدراما السورية "الوطنية" التي تعاني من مؤامرة خارجية، وأعربت عن رغبتها في مخاطبة كل السوريين بغض النظر عن الانتماءات السياسية، لكن هذه المقدمة الزائفة تلاشت تدريجياً مع تحول القناة التي يمتلكها رجال أعمال مقربون من النظام، إلى منصة جديدة للبروباغندا الأسدية، وتحديداً في البرامج التي تسللت إلى دورتها البرامجية قبل نحو أربعة أشهر.

وفيما لفتت القناة الأنظار ببرامج مسيسة ورديئة الصنع، لكل من الممثلة السورية أمل عرفة، والإعلامية اللبنانية رابعة الزيات، بسبب شهرتهما النسبية، إلا أن "منقدر" الذي تبثه القناة يومياً وتكرره بين فواصلها المختلفة، يحمل أكبر جرعة من البروباغندا الموجهة للسوريين، بالإضافة للأسلوب الخشبي البعيد عن الإعلام التلفزيوني العصري، وحتى الإعلام عبر منصات بديلة، مثل منصة "تيد" العالمية التي تقدم الأفكار الإيجابية وقصص النجاح من قبل أصحابها مباشرة بشكل مبهر.

ويجب القول أن البرنامج يعتمد نمطاً غير تلفزيوني وأقرب لبرامج "يوتيوب" منزلية الصنع من دون ميزانية إنتاج، والتي تستقي معلوماتها من ويكيبيديا وصورها وموسيقاها من المواقع الإلكترونية، بغض النظر عن الملكية الفكرية. أما الكوميديا المفترضة، فتأتي من أداء بوشناق الذي يتخطى مفهوم الرداءة وثقل الظل بمراحل كثيرة، ومن نكاته السمجة المعتمدة على العبارات البلدية الشعبية، التي يضحك عليها وحده في الاستوديو من دون مبرر واضح!



وعليه، قد لا يكون انتقاد بوشناق لتقديمه قصص نجاحات السوريين في دول اللجوء مثلاً، ضرورياً، بالنظر لطبيعة البرنامج المسيسة والدعائية، كما أن مشكلة السماجة والابتذال في الكوميديا أمر يمكن تجاوزه، مع كم المتظارفين الموجودين في مواقع التواصل الاجتماعي. لكن المشكلة الأكبر هي ضحالة كل ما يقوم بتقديمه للجمهور، وعدم وجود أفكار إيجابية أساساً في كم الثرثرة التي يحرص على تقديمها، تحت شعار "تغيير العقلية السورية".

يتناسى بوشناق هنا، العوائق الرسمية والبيروقراطية والفساد والمحظورات الأمنية وعدم وجود تشجيع للإبداع الفردي في أي مجال، والطائفية والمحسوبيات والسرقات، وغيرها من الجوانب الرسمية التي تشكل في مجموعها معنى الحياة في سوريا الأسد. وهي خصائص ليست طارئة أو دخيلة على البلاد بعد الثورة السورية، بفعل "الإرهاب والجماعات المسلحة"، بل هي أساس شخصية "الدولة السورية" التي جعلت من السفر والهجرة والرحيل حلماً لكثير من السوريين، من قبل انتشار اللاجئين السوريين في دول العالم، أصلاً، ما يعني وجود يقين لدى كثيرين أنه لا مجال أصلاً لتحقيق الذات أو مطاردة الأحلام وغيرها من المصطلحات التي يكررها بوشناق طوال الوقت، في بلد تحكمه عائلة الأسد كمزرعة أو إقطاعية كبيرة، لا يتوفر فيها الحد الأدنى للحياة أصلاً.

وهكذا يصبح وجود التحذير في مطلع كل حلقة من البرنامج ضرورياً فعلاً، ليس بسبب جرعة التفاؤل، بل بسبب جرعة الاستغباء والتعالي والفوقية، وربما يجب مواجهة البرنامج بشعار مضاد مثل "بيكفي!" أو حتى "توقفوا عن جعل الحمقى مشهورين".

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024