"ماما.. أنتِ اخترعي دواء للكورونا"

إيناس عزي

الإثنين 2020/04/13

مجدداً ليلة طويلة ومتعبة. لا أتمكن من النوم، صمت مطبق، وحدها تكتكة الساعة تقطعه بتكرار مزعج ولا نهائي. أُمعن النظر في القمر المكتمل الذي يعبر السماء بثبات دائم وأبدي، أُراقبه وهو ينحرف يميناً ولا أغفو حتى ساعات الصباح.

بين الحلم واليقظة، أسمع صوت الجرس يرن متواصلاً. كنت سأنطق بصوت عال: الجرس يرن... لولا أني نظرت حولي لأجد الكل يغط في نوم عميق، الكهرباء مطفأة وبقايا عتمة ليلية لاتزال تتلاشى بين الغرف. رنة الجرس تلك هي التي أيقظت عواطفي وجعلتني أبكي بحرقة كما لم أفعل منذ شهور، تللك الرنة أسمعها دائماً وأنا أقف أمام الباب بانتظار أن يفتح لي أبي أو أمي...

قبل أسابيع فقط كنا نصطدم ببعضنا، أولادي وأنا، أثناء ارتدائنا ملابسنا، ملابس إضافية أضعها في حقيبتي الكبيرة تحسباً لدعوة للبقاء ليوم آخر نتلقاها قبل المغادرة بلحظات، أُظهر تردداً قبل قبولها، وأنا أخفي سعادتي الغامرة.

الوقت الذي أمضيه مع أبي بعد نوم الأطفال، منتقلَين من مكان لآخر، عبر الزمن وعبر الأمكنة، بين الكتب، والذي لا ينتهي إلى أن تقودني أمي كطفلة صغيرة إلى الغرفة ولا تخرج حتى تتأكد من أنني لن أخرج مجدداً، وتتلو فوق رأسي فوائد النوم المبكر الذي لم أجربه يوماً!
الآن تحول هذا الوقت الذي لا يقدر بثمن إلى مجرد كلمات نتبادلها على الهاتف أو عبر شاشة الجوال.

الآن تغيرت المسافات تمددت، والبيت الذي كان الوصول إليه يستغرق ربع ساعة، صار يبدو على مسافة أميال...

مكالمات مطولة مع أختي الكبرى عبر الهاتف نتبادل فيها أخبار الكورونا، حوادث الخطف والقتل والانتحار، والتي صارت جزءاً من حياتنا اليومية. نتحدث عن ارتفاع الأسعار، عن رغيف الخبز الذي تخطط الحكومة لبيعه بالبطاقة الذكية بدلاً من توزيعه مجاناً، الرغيف الذي صار شاغل بال البشر هنا في سوريا. ونعيد، كل يوم تقريباً، الاحتمالات والأمنيات والحلم بلقاء ممتع وطويل وقريب. يتمدد زمن المحادثة، وأحياناً ثمة صمت طويل، ووداع.

الآن ننغرس أكثر في الأرض التي حُرق قمحها، بأثقال إضافية، بأحمال لا نستطيع التخلص منها. ومن الصعب ألا نبكي، ألا ننهار، ألا نحترق كما احترق بسام، اللاجئ السوري، ولم تكن يداه، بل القهر والجوع والخوف مما كان ويكون وربما سيكون غداً.

تومض الحياة فجأة، تبدو مذهلة عبر النافذة، براقة ومدهشة. حياة مزهرة، لكنها تبدو مثل وهم، مثل سراب. الشارع فارغ، طفلان فقط يعبران مع كرة وكمامات تغطي وجهيهما، بين ضوء وظلال تتناوب على أمواج العشب. تهتز أغصان الأشجار، أبنية بعيدة مُعتمة لم تكتمل بعد، يبدو الشارع نظيفاً هذه الأيام، تعبر حمامة السماء منتشية بما تبقى من الضوء، شريط رمادي معتم يليه لون وردي محمر مذهل يلف الأفق. تبدأ أضواء براقة بالظهور، تتحول إلى خيوط قصب تفصل السماء عن الأرض.

"إن العالم مسرح والناس فيه ممثلون"، يقولها شكسبير على لسان جاك في "كما تهوى"، لكن البلايا لم تعد تمنحنا وقتاً للوقوف على خشبته لنقول كلمتنا، لنترك أثراً، لنفهم المعنى، لندرك ولنجد أجوبتنا الخاصة. تُبعدناو تهزنا وتُسقطنا البلايا قبل الاستمتاع بهذه التجربة الوحيدة والقصيرة.

وحيدين، يجلس والدايَ، ووحدهم الأكثر بؤساً هم الآباء الذين يجلسون منتظرين انتهاء العتمة، نهاية الوباء، يفتقدون الفوضى التي يُحدثها اجتماع أحفادهم وأولادهم معاً، أولئك الذين يبعدون عنهم بضعة كيلومترات فقط. يجلسون في انتظار عودة أولادهم البعيدين والمبعدين منذ سنوات. وكما ملايين السوريين، ينتظرون شيئاً ما، قبل انقضاء ما تبقى من الحياة، وهم مغلولون فقط بالأمل، وأحياناً بما تبقى من الوقت نفسه.

تغير مفهوم المسافة والزمن، وصارت لهما معان جديدة. المسافة هي الأمان، في الابتعاد عن الآخر وقبلها الابتعاد عن الوطن، والزمن صار بطيئاً كفاية ليقتل الطبيعي فينا.

ربيع بارد وممطر، ورياح تزيد من عزلتنا ومن خوف تؤججه العتمة.
طويل هو زمن الانتظار، الانتظار للحصول على جرة الغاز، للحصول على البنزين والمازوت. طويل هو زمن الانتظار أمام صالات "السورية للتجارة"، طويل زمن العزلة من الوباء، طويل الوقت، طويل جداً في الانتظار، في انتظار الكهرباء، في انتظار العدالة، في انتظار الحياة. وقصيرة جداً الحياة.

"لن يكون أحد حراً ما دام ثمة بلايا" يقول كامو في الطاعون. نحن لم نكن أحراراً يوماً، ولا أعرف إن كنا سنصبح غداً؟ منذ سنوات ونحن ننتظر أن تتقلص المسافات، أن تنكمش تلك التي تفصلنا عن الطمأنينة، وعن الثقة في حياة إنسانية طبيعية. منذ سنوات والمسافات تتمدد بيننا وبين الأمل، منذ سنوات ونحن ننتظر الحياة التي صارت تبدو بعيدة كما القمر الذي يكرر عبوره في عود أبدي منذ ملايين السنين.

تعود الكهرباء، أنهض لأزيح الستارة، تنعكس صورتي في المرآة فأبدو أكبر سناً، شيئان يزددان بياضاً: خصلات شعري، ويداي، أغطي أطفالي وأقبلهم مجدداً. ابتسم
للجملة التي قالتها ابنتي الصغيرة قبل نومها "ماما أنتي اخترعي دواء للكورونا". أنا أمها البطلة، بل "أبطل الأبطلين" المؤنثة في نظرها، كيف لا؟ وقد حملتها تحت شتاء من الرصاص هطل على المدينة الراقدة على كتف بركان، لنعبر المسافة بين صالة الألعاب والسيارة، أمتار فقط كانت تبدو لي، أنا "البطلة"، أميالاً...

أزمنة قصيرة جداً بين رصاصة على الشرفة، رصاصة في الطريق، بين موت مجاني وعبثي وبين أجسادنا.

كنا ننام متأخرين، ونستيقظ على عجل، في بداية الثورة، لنشاهد ونسمع الأخبار، ومع مرور الوقت صرنا أبطأ وأقل أملاً. الآن أيضاً، مسرعين، نستيقظ لنتابع أخبار الوباء، الإصابات، الوفيات، مناطق الانتشار، المدن المهجورة والفارغة من سكانها وكل ما يتعلق بالفيروس المستجد.

ربما سنمل الانتظار أيضاً، يوماً ما، وسيترك أطفالي النوافذ التي صارت تبدو مثل تلسكوبات ضخمة تصلنا بالعالم الخارجي، ليتابع أشخاص يشبهوننا حياة ممتدة بتفاصيل مكررة برتابة لا متناهية، ناقصة من لحظات فوضوية تمنح الحياة سحرها.

الليلة أيضاً، القمر ما زال في مكانه أعلى النافذة، يتابع عوده الأبدي. ورغم ثباته الظاهر، إلا أنّه يبتعد ببطء شديد عن كوكبنا، وتنطفئ نجوم كثيرة من حوله. جدتي كانت تقول لي دائماً، كلما واجهتني مشكلة، "دوام الحال من المحال". الآن نحن سجناء الانتظار والتكرار والخوف، ووحده الزمن يملك الإجابات.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024