الشرطة الإلكترونية لسوريا والعراق.. فلبينيون

يارا نحلة

الإثنين 2018/12/31
في الفلبين، عالم يقبع تحت الظل، يقطنه آلاف الحراس الإلكترونيون الذين يقومون بمهام تنظيف مواقع التواصل الاجتماعي من العناصر "غير الملائمة". يسمّى هؤلاء بـ"مشرفو محتوى"، وينقر الواحد بينهم في اليوم على 25 ألف صورة أو فيديو، ليقرّر مع كلّ نقرة ما هو جدير بالتداول الإلكتروني، وما ينبغي حجبه عن العالم بأسره. 
يتسلّل وثائقي "The Cleaners"، لهانس بلوك وموريتس رايزويك، إلى خبايا هذا العالم الخفيّ، ليسلّط الضوء على قطاع حديث النشأة منتشر في دول العالم الثالث. ففي هذه الدول شركات مقيمة تتعاقد معها شركات "السوشيال ميديا" مثل "فايسبوك" و"تويتر" و"يوتيوب" تؤدي لها خدمات التنظيف وإزالة المحتوى البصري المؤذي أو العنيف.

موظفو هذه الشركات، وهم من الطبقات العاملة، يعملون في الظلّ وبسريةٍ تمنعهم عن الإفشاء بتفاصيل عملهم.

في فيلمهما الأوّل، يكشف المخرجان الألمانيان عن معضلة أخلاقية تواجه العالم الإفتراضي. ففي سعيها إلى الحفاظ على "أمن" المساحات الإلكترونية، تنزلق شركات السوشيال ميديا الى فخّ الرقابة وتوجيه المحتوى الإعلامي، وهو ما يناقض هويتها والأسس التي بنيت عليها. فبهذه العملية الرقابية، تستغني وسائل التواصل عن النقاش الاجتماعي التي تدعي إحتضانه، وتستعيض عنه بمعايير وإرشاداتٍ جامدة توزعها على عمّال عشوائيين.

يتتبّع الوثائقي 4 أشخاص فلبينيون يعملون كمشرفي محتوى في ما يشبه مصانع الـ"sweatshops" المنتشرة في أنحاء آسيا الشرقية. يجلسون لساعاتٍ طويلة خلف شاشات حواسيبهم معرّضين أنفسهم لسيل من المشاهد العنيفة والصادمة، منها صور ذبح وشنق وإنتحار، ومنها مقاطع فيديو بورنوغرافية لأطفال وقاصرات. بالرغم من إدراك بعضهم لأثر هذا النشاط على سلامتهم النفسية، فإنهم يفضلونه على البديل، أي البطالة. أما الشركات المشغلة لهؤلاء الموظفين، فهي لا تكترث لخطورة المهام التي توكلهم بها. 

وفي أحيانٍ كثيرة، تفوق دموية الصور قدرة تحمّل الموظفين. وحين حصل هذا الأمر لموظفٍ عامل في وحدة مراقبة المحتوى الذي يتضمن حوادث إنتحار أو إيذاء للذات، طلب هذا الأخير نقله إلى وحدة أخرى. وبعد رفض طلبه مرّات عديدة وتراكم الآثار النفسية لعمله المضني، أقدم أخيراً على الإنتحار، ليلقى المصير نفسه الذي كان يحاول حماية المستخدمين منه. في حادثةٍ أخرى، صارحت إحدى شخصيات الفيلم مديرها بعدم قدرتها على مواصلة هذا النوع من العمل. إلا أن مديرها رفض إقالتها بحجة توقيعها عقداً مُلزماً.

يتلقى هؤلاء الموظفون تدريباً لا تتجاوز مدته الخمسة أيام، وهم موكلون بمهمة تنقية الإنترنت من العناصر التي تنتمي إلى ميدان الإرهاب، العريّ، البورنوغرافيا، والعنف. في مكاتبهم في الفلبين، تصلهم يومياً صور من مناطق كسوريا والعراق، وهم مولجون بتحليلها وتصنيفها في  خانة "الإرهاب" أم "الأمان"، وذلك رغم جهلهم للحيثيات السياسية والثقافية للمنطقة العربية، أو غيرها من المناطق التي لا يفهمون حتى لغتها.

يفتقد مشرفو المحتوى للكفاءة أو التخصّص في الأمور التي يتخذون قراراتٍ تحريرية بشأنها، رغم أن البعض منهم يعتبر نفسه "شرطياً" إلكترونياً. فنشاطهم لا تسيّره معرفة عميقة بشؤون الإرهاب أو البورنورافيا، بل أنظمتهم الأخلاقية الخاصة. وبعضهم لا يفرّق مثلاً بين صور الجثث أو الأجساد العارية وبين الأعمال الفنية والصور الكاريكاتورية، فتنتهي جميعها في حاوية المهملات نفسها.

الفيلم الذي عرض ضمن نشاطات مؤتمر "خبز ونت" الذي نظمته جمعية SMEX، في الشهر الماضي، تبعه نقاش بحضور جيليان يورك، التي عملت كإستشارية في الفيلم، وندى عقل وهي باحثة قد عملت سابقاً كمشرفة محتوى. إنتقدت يورك هيكل عمل الجناح الرقابي لشركات مثل فايسبوك وغوغل. فهو يقتصر على فئتين من المراقبين لا غير؛ فئة المدراء والإستشاريين والخبراء الأميركيين التي تضمّ المئات من خريجي الجامعات النخبوية مثل هارفد وستانفورد. فيما تشتمل الفئة الثانية على آلاف الموظفين من الطبقات العاملة لدول العالم الثالث، والتي تقوم بمعظم العمل. إن تجارب هاتين الفئتين ترسم وحدها معالم التجربة الإلكترونية لباقي شعوب العالم. 

بدورها، تحدّثت عقل عن التناقضات التي يشهدها الفضاء الإفتراضي. فمن جهة، تتلقى وسائل التواصل الاجتماعي ضغوطاً من أجل حماية المستخدمين من محتوى معّين؛ كخطاب الكراهية أو الصور المخلة بالآداب العامة. ومن جهةٍ ثانية، تدعو مجموعات أخرى إلى إلتزام مواقع التواصل بأسس حرية التعبير. فما يعتبره البعض خطاب كراهية، يراه الآخرون حرية تعبير.

أما العاملون في مجال التكنولوجيا فهم لا يمتلكون الأدوات اللازمة لمعالجة مسائل إجتماعية من هذا النوع. "فمجال الإنسانيات يلتقي للمرة الأولى بعلوم الكمبيوتر"، بحسب تعبير عقل، "إلا أنهما لا يعرفان بعد كيف يتعاملان مع بعضهما البعض". أما الحلّ، فلا يكون بإنشاء مصانع رقابية مشبوهة في دول العالم الثالث.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024