النظام والرياضة.. ميليشيات افتراضية تؤجج أحقاد السوريين

عدنان نعوف

الإثنين 2020/12/21
حين نشاهد أعمال الشغب التي وقعت في مدينة جبلة السوريّة عقب خسارة فريقها أمام فريق "تشرين" خلال الجولة الماضية من دوري كرة القدم، فإن أول سؤال يتبادر إلى الذهن هو حول طبيعة المتقاتلين في الشارع، وإن كانوا هم ذاتهم الشعب السوري الخائف من فقدان رغيف الخبز، والمُقيم في طوابير احتياجاته اليومية.


أوصاف انفعالية تتبعها تفسيرات مُستهَلكة حول التحضّر والهمجية لن تمنع البحث في الأهم، أي العوامل التي تصنع للمواطنين الغاضبين ساحات لتفريغ غضبهم. وفي هذه الحالة، من السّهل تبسيط الموقف بالتركيز على الأوضاع المعيشية، والقول بأنها تدفع الناس للبحث عن فرصة لتنفيس قهرهم. لكنّ "المشهد الهمجي" رأى فيه موالون "ساحة حرب" إضافية تستحضر بطولاتٍ يُفترض أنّ مكانها هو جبهات إدلب، حسب رأيهم. 

استخدامات عديدة
هنا يبدو مفهوماً أن تحمل الرياضة معنىً حربيّاً في وعي الموالين، غير أنها بالنسبة لنظام الأسد كانت واستمرّت بمَعانٍ واستخدامات أوسع سياسية ودعائية، قديمة أو جديدة، يَعيها الجمهور أحياناً أو يكتفي بالتأثر بها.

وعلى هذا الأساس لم يَعُد تعميم الشعور بـ"الصمود" وظيفةً وحيدة للاستحقاقات الرياضية الداخلية والخارجية، لأنّ مرحلة "ما بعد الانتصار على الإرهاب" اقتضت أيضاً إتاحة الفرصة للمواطن السوري المسحوق أن يحقق انتصارات وهمية تعوّض عن هزائمه المتواصلة أمام نظام قمعي زبائني يُسوِّق لفكرة أنّ: "من حقّ الشعب السوري أن يفرح".

هذا الكليشيه العاطفي الذي يشترط أن ترتسم البسمة على وجه المقهورين حصراً، تلخّص أسلوب عمل متكامل يحرّك أجهزة النظام في مختلف المجالات المنتجة لـ"الترفيه" بحيث تحقق له أهدافاً مختلفة بينها السيطرة السياسية والضبط المجتمعي.

ولأن ذلك لا يتمّ إلا بتوفير بيئة مناسبة لـ"التعبير الحر"، فقد ظهرت في الدوري المحلي السوري، على سبيل المثال، نسخٌ غير مألوفة من روابط المشجعين "الألتراس" تنشَط في مدرجات الملاعب وفي مواقع التواصل، وتنكّل معنوياً بالمنافس بأساليب متطورة قد لا تتوفر في كثير من دول المنطقة المستقرة منها أو الغارقة في الأزمات.

ولفهم دَور هذه الروابط، تكفي الإشارة إلى أنها تحولت إلى ما يشبه ميليشيات افتراضية تستطيع زيادة الاستقطاب وإذكاء الأحقاد، وإبقاء المدرجات بعيدة عن هموم الناس المتعلقة بلقمة عيشهم.


أهمّ من القمح
أما الذراع الأخرى الأكثر أهمية بالنسبة لنظام الأسد فهي المنتخبات الوطنية. فهي، وإن كانت ذات مهام معروفة في فترة الحرب السورية، فإنها مؤخراً أصبحت واجهة إعلامية لا تقتصر على غسل أيدي النظام من دماء جرائمه، وإنما انتقلت إلى مرحلة متقدمة من التعمية على الموت السوري بكل أشكاله في بَلدٍ يستجدي الطحين من "الحلفاء" و"الأصدقاء"، ويَجدُ أبناؤه أنفسهم مطالبين بزراعة حدائق بيوتهم بالقمح لحل "الأزمة"!

والغريب أن الأزمة تتبخر حين يتعلق الأمر بالألعاب الشعبية، ليُظهِر النظام عندها قدرات مالية وإدارية وإعلامية تُمكِّنهُ من التعاقد مع المدرب التونسي الشهير نبيل معلول لتدريب المنتخب السوري لكرة القدم. وفي حال تجرّأ أحد على مناقشة "التفاصيل" أياً كانت غايته، فإن الدنيا تقوم ولا تقعد، مثلما حصل مع الصحافي السوري مازن الهندي الذي تعرض للتوقيف بعد رفع دعوى ضده من قبل اتحاد كرة القدم، واتهامه بـ"التحريض على المنتخب، والإساءة لشخصية رئيس الاتحاد"، ليتضح لاحقاً أن السبب الحقيقي للدعوى، بحسب تصريح للهندي، هو انتقاده في وقت سابق للشرط الجزائي المتفق عليه مع المدرب، والبالغ مليون يورو يدفعها الاتحاد إذا قام بإقالة المعلول.

ولكي تكتمل صورة هذا التوجه المستجد لمؤسسات النظام، تجب الإشارة إلى تعاقد اتحاد كرة السلة السوري قبل أشهر مع المدرب الأميركي "جو ساليرنو" لتدريب منتخب الرجال. وليس هذا وحسب، بل مع ضمّ اللاعب المُجنّس الأميركي "جورج كيل" إلى صفوف المنتخب.

وفضلاً عن التعاقدات، لعل الملفت كذلك تركيز منصات النظام الإعلامية على نقل كل شاردة وواردة، خصوصاً ما ينتصر منها لـ"الهوية السوريّة" ويزيد من ارتباطها بشباك المرمى والسلة، في حين تبقى القضايا المعيشية مسائل نسبيّة تُناقَش تحت بند "الخدمات" والأخطاء التي لا تمسّ "سُوريّة السوريين".

نسيان الواقع
لا شكّ أن نظام الأسد المحاصر والمعاقب ليس سَبّاقاً في توظيف الرياضة خارج ملاعبها، بالنظر إلى تجارب أنظمة أخرى عززت شرعيتها، وعوّضت جماهيرها عن انعدام الحريات والخبز بلحظات الفرح الجماعي والانفعالات الانتمائية.

وعليه، فمنَ الطبيعي أن تتشابه المظاهر وتُستعاد، لنكتشف في لحظة ما أن صرخات جمهور فريق جبلة المشتبك مع الشرطة ربما غطّت على صوت مواطن في الشارع ذاته يُحتضر ويستغيث طالباً أسطوانة أكسجين أو ليتر مازوت لتدفئة أطفاله، تماماً كما غطّت أصوات المشجعين الأرجنتينييّن في كأس العالم 1978على استغاثات المعتقلين في أحد مراكز التعذيب بمدينة بيونس أيرس. فعلى الرغم من فارق الزمن ومستوى الحدث، فالتشابهات حاضرة دوماً، طالما أن القاعدة واحدة وهي تخدير الناس ودفعهم الى نسيان واقعهم.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024