الشتائم بدلاً من القصائد

زكي محفوض

الخميس 2019/10/24
تُعَدّ الشتيمة سلاح الضعيف والعاجز الذي لا يملك حجة ولا برهان لديه على ما يدعيه، فصاحب الحجة القوية لا يلجأ الى الشتم والسب والاتهام، إنما الى إبراز دليله وحجته. ولكن، كم من عاجز أثناء التعذيب شتم معذّبيه لأنه لم يجد سوى الشتيمة تعجّل في فرجه... موتاً على الأرجح.

غير أن الحراك الدائر حالياً في لبنان استحدث مفهوماً آخر للشتيمة والسباب ومعهما السخرية. الشتيمة إبان ثورة 17 تشرين المذهلة في لبنان، بقيت تشكّل سلاحاً في يد المستضعفين والعاجزين، ولكن ليس لمجرّد السباب و"فشّ الخلق" إنما لتقويض هالات الأقوياء ولإنزالهم من عليائهم على الأرض.

وهؤلاء المستضعفون والعاجزون، على عكس التعريف، يملكون الحجج والبراهين على فساد حكّامهم واستعلائهم واستخفافهم بكرامات الناس واستهتارهم بأحوالهم المعيشية، فهم عايشوها أباً عن جد ويعايشونها كل يوم. فالأدلّة على ذلك تتكرر، بكل غباء، منذ عهد الاستقلال حتى العهد الحالي. ولا ضرورة لسردها لأنها لا بد أنها ستتكشّف في الأيام المقبلة مع عودتها إلى أذهان الناس وذاكراتهم. وعندئذٍ، سيلمسون لمس اليد الأسباب الحقيقية لمذلّتهم ومعاناتهم الطويلة.

فعلى مرّ العهود كان اللبنانيون مخصيّين سياسياً، لا تأثير لهم في نظام "ديموقراطي توافقي" مفصّل على قياس الأقوياء. فالانتخابات النيابية والرئاسية تدبّر تدبيراً، وإذا صادف أن خسر مرشّح موعود بالفوز في النيابة، يجري التلاعب بصناديق الاقتراع في مصلحته. والفائز هنا صنفان: صنف لديه حظوة (واسطة) لدى أصحاب القرار والنفود، وصنف ثري يدفع المعلوم (الرشوة)؛ فيحظى كل منهما بمقعد تحت قبّة البرلمان.

وأما المرشّح للرئاسة فكان يتبوّأ سدة الحكم بعد وصول "التعليمة" إلى النوّاب (كما في سباق الخيل) أو هبوط "الوحي" أو تسلّم "الشنطة" المُفْعَمَة بالأموال... آخر مرشّح للرئاسة كان استثناءً فهو لم يفز بـ"الوحي"، إنما بفضل "بندقية حزب الله"، على ما صرّح به أحد نوابه السابقين في البرلمان. وسبقه مرشّح آخر أصبح أيضاً رئيساً للجمهورية بفضل "الدبّابة الإسرائيلية".

ثم انسحبت الواسطة والرشوة على التوظيفات والتعيينات في كل المرافق العامة للدولة، إضافة إلى الحسابات والتوزيعات الطائفية. وبات الموظّفون والمعيّنون، بالواسطة أو الرشوة، رهائن في أيدي من أنعم عليهم بالعمل. فأمسى الرهائن وعائلاتهم في قبضة أولياء نِعمهم. وهو الأمر الذي أثّر بشدة على اختياراتهم في كل شيء: في الانتخابات العامة والبلدية، والتوظيفات والتعليم. وكلّما ارتهنت عائلة لولي نعمة اشتد على أفرادها الخناق، وأخذوا يعانون أكثر ويتشدّدون مع الأجيال الجديدة في "حسن الاختيار... وإلاّ"!

وهكذا، بدا لبنان كلّه ذليلاً مرتهناً... حتى إبّان الحرب اللبنانية 1975 - 1990، لما هزلت الدولة وحلّ محلّها حكم قوى الأمر الواقع وأقاموا إداراتهم الخاصة، لم يكن للناس أيضاً أي رأي أو أي تأثير. كانوا كلهم (إلى أي جهة انتموا) ضحايا المجازر والقصف والخطف والحواجز والتهجير وتقتير المياه والكهرباء ولقمة العيش...

وبقيت عيون الأحزاب في تلك المرحلة على حالات الهدنة، عندما كان يعود اللبنانيون ويتلاقون للإطمئنان بعضهم على بعض. كأن في تلك اللقاءات ومباهجها - أحياناً عند المعابر -  ما كان يثير حنق الأحزاب، هم الذين أرادوا الإمعان في تفتيت الناس، وفشلوا.

كنّا أذلاء في كل الأوقات من دون أن نشعر بوطأة ذلك، جاهلين الجهة الحقيقية التي كانت ولا تزال تذلّنا. لأن كلاًّ منّا كان يعتز بقضية كبرى ما، اعتنقها بمجرّد أنه قاطن في منطقة معيّنة أو منتمٍ إلى دين أو طائفة معيّنة، ومن دون أن يفكّر في تأثيرها على حياته ومعيشته وكرامته.

كنا أذلاّء لكن الذل لم ينجح في جمعنا، بل كنا نتخاصم ونتقاتل باسم القضايا والأديان والطوائف، متجاوزين ذلّنا وقهرنا الحقيقيَّين. "يا أذلاء لبنان، اتّحدوا"، لعلّه الشعار الضمني الذي رفعته ثورة 17 تشرين، ولبّاه اللبنانيون بأعداد هائلة غير مسبوقة غطّت الساحات على امتداد الوطن، بعد أن اكتشفوا ان مصدر معاناتهم الفعلي وذلهم هو الزعيم والطائفة والحزب والتيار الذي يُحسب كلّ منهم عليه، وبالشراكة مع الأطراف المناوئة الأخرى.

سلاحهم الوحيد الشتيمة والسخرية، بعد حقبة طويلة وتراث أدبي غنيّ من القصائد التي تنتقد الحكّام وتتغنّى بالقضايا لا سيّما منها قضية فلسطين... واشتهر حينذاك مظفر النواب وبدر شاكر السيّاب ومحمود درويش وسميح القاسم ونزار قباني وغيرهم كثر، ممن تسببت كلماتهم بتهجيرهم وملاحقتهم.

وفي قصيدة نزار قبّاني "أصبح عندي الآن بندقية"، بيت يقول "من يوم أن حملت بندقيتي / صارت فلسطين على أمتار"... وبعد الحروب التي خيضت ضد إسرائيل صارت الأمتار تتزايد لأسباب كثيرة لا مجال لسردها هنا. وتزايدت أكثر بعد الانتصار المدوّي الذي حققته المقاومة الإسلامية في لبنان على إسرائيل، إثر انحراف مسارها نحو الاقتتال في بلدان أخرى دفاعاً عن عتبات مقدّسة تارة وتكفيريين طوراً وأنظمة غاشمة... وغير ذلك.

ففرض حزبها "حزب الله"، وهو الأقوى بالأكثرية البرلمانية والحكومية والعدد والسلاح، سلوكاً سياسياً محدداً على لبنان، لكي يسمح لنفسه بالتفرّغ للقتال في الخارج. فأتاح لحلفائه حرّية التصرّف بالبلاد تغطية له، كما ساهم ممثلوه مع الحلفاء ومع من انضمّ إلى حكومته في همروجة الحكم والفساد والتخبّط والتلاعب بمصائر الناس.

لم يخطر في بال أحد أن ثمة لبنانيين أخذوا يسجّلون ارتكابات الطبقة الحاكمة بحقّهم للتحرّك ضدها. ومن كان يبالي!.. وكانوا هم على حالهم المعهودة حتى تلاوة الخطة الاقتصادية في نسختها الأخيرة التي تنال منهم ولا تطاول أياً من الحكّام. فنزلوا بأعداد مهولة أخذت تتزايد كل يوم.

سلاحهم الوحيد في وجه ظلاّمهم هو الشتيمة التي حلّت محلّ القصيدة لعدم جدوى الأخيرة كما تبيّن مع الأيام، ولأن لا وقت لاستدرار العواطف في مثل هذه المحنة العسيرة والتحرّك الصاعق. ومع ذلك لاقت الشتائم رواجاً منقطع النظير. إلاّ أن الشتيمة هذه المرة لم تكن سلاحاً للضعيف وفاقد الحجّة، بل سلاح بيد القوي الذي يستمد قوته من العدد والتوافق على المطلب. فمليونا متظاهر، أي نصف سكان لبنان، لا بد أن يكونوا الأقوى. الأقوى من الهالات والزعامات والمقدسات.

غطّو الساحات في كل مكان. وهتفوا ضد كل ظلامهم، "كلن يعني كلّن"، مع أن هذا الهتاف ينطوي على احتمالين: احتمال أن يكون قائله صادقاً يعني ويستهدف الجميع، وهذه حال الغالبية التي تعزّز صدقيتها التحرّكات المناهضة لحزب الله وبيئته، بخاصة في النبطية وصور، حيث تدور أقسى أنواع القمع. واحتمال آخر يتلطى خلفه كل من لا يزال يعتقد أن "كلن يعني من عدانا". وضمن هذا الاحتمال الثاني، يقبع بعض الأحزاب التي لا تزال حاقدة على الناس بسبب اخفاقاتها الماضية، ولأنها على الأرجح شعرت بأن الوقت حان لأن تدفع ثمن التمادي في إذلالها لهم. وها هم يحاولوا التسلل إلى صفوف هذه الثورة المذهلة، متحيّنين الفرص للانقلاب عليها أو لقلبها في مصلحتهم... إن استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.

من بين كل الذين طاولتهم الشتيمة ورفيقتها السخرية يمكن تمييز شخصين: حسن نصرالله وجبران باسيل.

الأول، حاكم لبنان الفعلي، الذي يفعل ما يشاء ولا يتطلّع إلى الداخل إلاّ في ما يفيد سياسات حزبه. ويأخذ الناس (4 ملايين نسمة، على الأقل) إلى حيث يريد. ويشدّد على أن الحق معه، من دون أن يبالي بمشاكل الناس اليومية، علماً أن حتى بيئته تعبّر عن تململها من ممارسات عناصر حزبه. فكيف يمكن جعل شخص كهذا – وهو الأقوى - يتوقّف قليلاً ليلتفت إليك على الأقل، غير بالسخرية والشتيمة اللتين أثارتا حنق مناصريه. وها هم يتمادون في قمع من كان محسوباً على بيئتهم الحاضنة. "كلّن يعني كلّن نصرالله واحد منن"، وغيرها من رسوم وكاريكاتير جاءت ليس لتوجيه الإهانة إلى شخصه، بقدر ما جاءت لكسر المحرّم وتحطيم هالته وجعله إنساناً يمكن التعامل معه.

وأما الثاني، جبران باسيل، فقد تناولته الشتيمة الساخرة التي فعلت فعل قصيدة، بدليل أنها حظيت بألحان مختلفة وألهبت السوشال ميديا ووصلت إلى وسائل الإعلام الغربية. والسبب تماديه في الغطرسة كوليّ عهد مدلّل تتشاقله الأذرع والراحات، وبلغ ما بلغه بسبب علاقة قربى وحسب، فهو لم يصل حتى إلى رئاسة التيار الوطني الحر مرّتين إلاّ بالتزكية.

وفي الأثناء، فشلت كل محاولات تخوين المتظاهرين بالعمالة لإسرائيل أو السفارة أو الغرب، فما من عاقل أو مجنون يجرؤ على الاعتقاد بأن مليوني لبناني هم عملاء! ويبقى الأمل كبيراً في أن تؤثّر ثورة 17 تشرين في نتائج صناديق الاقتراع المقبلة، سواء أكانت مبكّرة أم في موعدها المعتاد.

وقبل أن أنسى "هيلا هيلا هيلا هيلا هووو... (ضعوا الأسم الذي يحلو لكم).
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024