لستَ وحدك في هذه التروما

عزة طويل

الثلاثاء 2021/05/25
(*) هل تعرّضت لضربٍ مبرح حين كنت صغيراً؟ هل تُركت طفلاً وحدك في غرفةٍ مقفلةٍ ومعتمةٍ، مثلاً، كقصاصٍ لعدم امتثالك للأوامر؟ هل شهدت شجاراتٍ عنيفةً بين والديك ولم يكن في وسعك فعل شيء حيالها؟ هل توفي أحد والديك بشكلٍ مفاجئ في طفولتك، أو اقترب كثيراً من الموت؟ هل مُنعت من رؤية أحد والديك لأن الآخر اختار معاقبة شريكه عبرك؟ هل تعرّضت لاعتداءٍ جنسي من أحد المقرّبين إليك؟ هل تساقطت من حولك قذائف نجوت منها بأعجوبة؟ هل رأيت مسدساً أو رشاشاً مصوّباً نحو أحد المقرّبين إليك؟

إذا كان الجواب نعم، فقد تعرّضت طفولتك لـ"تروما" أدّت إلى جرحٍ نرجسيّ عميق تغلغل في جهازك النفسي. ماذا يعني ذلك؟ ببساطةٍ، هذا يعني أنك اكتشفت للمرة الأولى أنك لست عصياً على الموت، وهو ما لم يكن دماغك، أو دماغ أي طفلٍ في الواقع، حاضراً لتقبّله أو فهمه أو إدراكه بأي طريقةٍ من الطرق.

للموت هنا شكلان: الأول فعلي، يتجسّد في إدراكك المفاجئ بأن جسدك أو جسد أحد المقرّبين جداً منك، قد يموت بالفعل، فتسقط في فراغٍ مرعب يمثّله الموت. والثاني فعليٌّ أيضاً، لكنه لا يتعلّق مباشرةً بالجسد، كأن يجتاحك صمتٌ مهولٌ وتجمد في مكانك أثناء الحدث الصادم، فاقداً كلّ قدرةٍ على فهم ما يحدث أو وصفه بكلماتٍ واضحة، فتسقط في فراغٍ هائلٍ هو نفسه فراغ الموت.

وفي الحالتين يلتقي دماغك، للمرة الأولى، مع حقيقة العدم، وتتماهى مع هذا العدم بما لذلك من تبعاتٍ تواجهها في حياتك، وقد تستغرق سنواتٍ طويلةً قبل أن تبدأ بالظهور، على شكل أعراضٍ نفسية من الكآبة إلى القلق المفرط إلى الإحساس بالذنب، مروراً بالانعكاسات الجسدية والصحية لذلك، من المرض البدني النفسي (كآلام الشقيقة مثلاً) إلى المرض الجسدي الطبي (سرطان، قرحة، إلخ).

مهلاً، أكمل القراءة، فأنت لن تنجو من صدمتك إذا لم تتقبّل وجودها. كما أنك قد تجد صعوبةً في استيعاب مدى تأثيرها في حياتك، حتى اليوم، مهما بلغ عمرك، إلا إذا كنت واجهتها وتعدّيتها. ثمة من يقضون حياتهم كلّها عالقين في صدمتهم، من دون أن يعلموا حتى أنها أدارت لهم حياتهم عنهم، وأنهم كانوا شبه متفرّجين فلم يستمتعوا بحياةٍ تليق بهم. هكذا هي التروما، دوّامةٌ من العجز قد تبتلع من عاشها، فيصبح العجز عنواناً لحياته.

وهذا، في الحقيقة، حال أجيالٍ وأجيالٍ متتابعة من اللّبنانيين الذين شهدوا وأطفالهم حرباً طويلةً وعدواناً متكرّراً وانفجاراتٍ كان أسوأها انفجار مرفأ بيروت في 4 آب/أغسطس 2020.  كما أنها حال أطفال فلسطين وأطفال سوريا، ومن المؤكّد أنها حال الكثير من اليمنيين والليبيين وغيرهم، طالما أن العالم العربي أصبح أشبه بمعمل صدماتٍ لا تميّز بين أطفالٍ وبالغين.

لكن الأمر لا يقتصر على معايشة الأطفال للحروب، بل يتعدّاها ليدخل الكثير من البيوت العربية من نافذة تروما الأهل، وأيضاً من باب طريقة تعاملهم اليومي مع أطفالهم. تصوّر مثلاً ما يعنيه أن تكون ابناً لأمّ أو لأب يضربانك باستمرار لتعليمك كيف تكون أفضل وتصبح أقوى. لن تفهم لماذا يقوم الشخصان الأغلى على قلبك بإيذائك، فيما السبب المعلن هو محاولة إفادتك. أن تتلقّى أذىً جمّاً من أقرب المقرّبين إليك، كفيلٌ بصدمك وجرحك لمدة طويلة للغاية، فكيف إذا كان ذلك بحجة جعلك أقوى؟

تصوّر الآن ما يعنيه أن تكون طفلاً لعائلةٍ خسرت أحد أبنائها خلال الحرب، أيّ حربٍ من تلك الكثيرة التي عصفت وتعصف حالياً بالعالم العربي. كيف ستكون طفولتك؟ السيناريوهات متعدّدة لكن ثمة ما يربط بينها جميعاً: إمّا أن يصبح أحد والديك، أو الإثنان، مفرطاً في حمايتك بسبب صدمته، فيخنقك ويأسر حرّيتك من دون قصدٍ مباشرٍ منه، وإما أن يصاب أحد والديك أو الاثنان بكآبةٍ شديدةٍ فيعجزان عن التواجد معك بشكلٍ فعليّ يناسب حاجاتك، وإما أن يكونا حاضرين أحياناً وغائبين في أحيان أخرى. قد يكون أحد الوالدين حاضراً والآخر غائباً، والحضور هنا ليس جسدياً فقط، بل هو الحضور الفعلي الذي يتجسّد عبر قضاء وقتٍ في التواصل المباشر مع الطفل كاللّعب معه، والإحاطة به وبحاجاته.

ما الجامع بين هذه السيناريوهات؟ قلق الموت سيتسرّب إليك لا محالة، رغم أنك لم تختبر لحظة موت جسدية أو نرجسية بشكلٍ مباشر. بعبارةٍ أخرى، سيخترق الموت جسدك وسيسجّل حضوراً قوياً فيه، رغم أنك لن تدركه بالضرورة، أو أنك قد تتأخّر كثيراً في إدراكه.

من الأمثلة الأخرى الكثيرة التي باتت في مجتمعاتنا أقرب إلى القاعدة منها إلى الاستثناء، ما تشير إليه الإحصاءات بأن 99% من إناث مصر تعرّضن للتحرّش الجنسي (الأمم المتحدة، 2013). لا تستثني هذه الأرقام الأطفال، ذكوراً وإناثاً، وإن كانت المعدّلات أعلى بالطبع لدى الإناث. وفي السعودية يتعرّض طفل من كلّ أربعة أطفالٍ للتحرّشٍ الجنسي (صحيفة عكاظ، 2014). أما في لبنان، فالإحصاءات الحديثة شبه غائبة، كما أنها، إن وُجدت، لن تعكس الواقع الفعليّ، بسبب قلّة البلاغات وشبه التعتيم من قبل العائلات على حوادث الاغتصاب عموماً واغتصاب الأطفال خصوصاً، علماً أن أن اغتصاب الأطفال يحدث بنسبةٍ عاليةٍ جداً من قبل الأهل أو الأقرباء.

إذاً، تصوّر الآن معي موقف طفلٍ تعرّض للاغتصاب من قبل أحد أقربائه. ستفزعه التجربة إلى حدّ الإجفال، سواء أكان صبياً أم فتاةً، فيرتبط جسده بالتروما التي عاشها، بما يترتّب عنها من إحساسٍ بالعجز والذنب والفراغ، وصولاً إلى الرغبة غير الواعية بالموت في الكثير من الأحيان، واستحضاره حتى عبر ممارساتٍ خطرةٍ أو حمل السلاح أو إدمانٍ أو غيرها، تعرّض حياته للخطر من دون أن يدرك السبب الذي يدفعه إلى هذه الممارسات.

أما حالة الشجار العنيف بين الوالدين فتفاقمت بفعل جائحة كورونا والحجر المنزلي (الأمم المتحدة، 2020). ليست الجائحة في حد ذاتها هي السبب، فالمشكلة متغلغلة في مجتمعاتنا إلى درجة يمكن معها المراهنة بأن أصابع اليدين لن تكفي لعدّ قرّاء هذا النصّ من البالغين الذين شهدوا شجاراتٍ عنيفة بين أهاليهم، والذين سمعوا أمّهم تقول: "بقيت مع بيّكن كرمالكن" على سبيل المثال.

والحال أن العنف يولد توتراً شديداً لدى جميع أفراد الأسرة، بمن فيهم الأطفال، وإن لم يكن موجّهاً ضدّهم، كما أثبتت الدراسات ذات الصلة أن أمّاً من أصل ثلاث أمّهاتٍ تعرّضن لصدمةٍ تعتبر أطفالها مصدر تهديدٍ وثقل وليس مصدر سعادة (مجلّة enfance الأكاديمية المحكّمة، 2015)، وهذا بسبب تغييراتٍ في الدماغ إثر الصدمة تجعلها من دون قصدٍ منها، أقلّ تجاوباً مع أطفالها، علماً أن ازدياد حدّة التروما لدى الأمّ يحتّم تجاوباً أقلّ من قبَلِها مع ما يستتبعه ذلك من إحساسٍ لاحقٍ بالذنب.

وهذا بالطبع أمرٌ يعيه الطفل مباشرةً ويزيد حدّة تروما العنف لدى الطفل. وهذه الحالة ليست خاصةً بالمرأة وحدها، إذ إن الرجال يتعرّضون كذلك لصدماتٍ تؤثّر هي الأخرى في علاقتهم بأطفالهم وتجعلهم لا يعون ما يفعلون.

تصوّر الآن أنك في العام 2021، طفلٌ فقد أباه بسبب وباء كورونا مثلاً. على الأغلب أنك لم تتمكن من وداعه بشكلٍ طبيعيّ، وهذا أحد العوامل التي تؤدّي إلى تعقيد مراحل الحداد الطبيعية التي يمرّ بها كلّ شخصٍ يفقد أحد أحبّائه، وهي الإنكار والغضب والمساومة والاكتئاب ومن ثمّ التقبّل، فيستغرق عبور تلك المراحل لديك أكثر بكثير مما قد تستغرقه مراحل الحداد لدى طفلٍ لم يشهد تعقيداتٍ إضافية لناحية الفقدان من مثل منعه من وداع فقيده.

لا تغطّي هذه الأمثلة كافة حالات التروما بالطبع، فكلّ منّا قادرٌ على معرفة ما هي الصدمات التي تعرّض لها. لكن، في ظلّ أولوياتٍ قصوى تعيشها شعوب المنطقة، مثل الأمل في وقف إطلاق النار، أو تأمين لقمة العيش، أو الصحة الجسدية، تبقى الصحّة النفسية في أسفل سلّم الأولويات، وإن كانت، كالتربية، عماداً أساسياً لمجتمعٍ أكثر قدرة على خلق غدٍ أفضل. 

لعلّنا تذكّر دائماً أن التروما التي تُرمى في أجسادنا، تسبّب اختلاجاً في الجسد والنفس يستمرّ حتى بعد استقرار التروما في جهازنا، تماماً كـ"الحصاة التي تُرمى في بركةٍ فتسبّب اختلاجاً في الماء يستمرّ حتى بعد استقرارها في القاع" (أرثر غولدن، اعترافات غايشا، 2006). لذلك دعونا نتشارك ما عشناه، لنخرجه من الفراغ عبر الكلمات، شفهيّةً كانت أم مكتوبةً، لنصفه ونحدّده لنشفى، معاً، من صدماتٍ غدت جماعيّةً على امتداد وطننا العربيّ.

(*) بمناسبة شَهر التوعية بالصحة العقلية والنفسية الموافق في أيار/مايو من كل عام. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024