والآن، ماذا سيحل بنا مع كل هؤلاء البرابرة!

راشد عيسى

الإثنين 2020/02/03
لم تبدأ الهزيمة مع الإعلان الأميركي عمّا سمّي "صفقة القرن". وما السهولة التي حدثت بها الأمور، من تفاصيل الإعلان إلى ردود الأفعال، إلا تأكيد على أن طبخة مئة عام، منذ "وعد بلفور"، قد جعلت البلاد الآن سائغة إلى هذا الحدّ.

إنها مئة عام ليست سوى تاريخ الخيبات، من النكبة الكبرى العام 48، والهجيج الذي ألقى بالفلسطينيين في الطرق، في المخيمات، وعلى خاصرات المدن العربية الكبرى، بفعل المجازر، أو بفعل التلويح بها. إلى هزيمة 67، التي اقتلعت، في ما اقتلعت، خيمة اللاجئ من جديد وألقت به بعيداً من الحدود، إلى "جرش" و"عجلون" العام 70، ثم تل الزعتر، وبعدها اجتياح 82، صبرا وشاتيلا، طرابلس، البداوي، البارد، إلى مخيم اليرموك، ودير بلوط..

بالنسبة إلي، تستعيد الصفقة هذا المسار الطويل منذ أن خرج أبي من الطابغة-طبريا (الدابغة كما كان يلفظها) ابن اثنتي عشرة سنة، إلى الاقتلاع الأخير المرّ من بيت بائس في المخيم، حيث عاش، وعشنا، كل حياته الباقية، عندما هجّ المخيم كله تحت قذائف النظام الأسدي التي لم تترك مكاناً آمناً فيه.

مع ذلك، كانت هناك بقية من أمل، مع بشائر الربيع العربي. لم يكن لدينا شك في أن الثورات، إن كانت عادلة في العمق، لا بدّ ستصل إلى فلسطين، وإن لم ترفع شعارها.

لكن ما حدث تالياً أن الثورات، السورية منها خصوصاً، مُنيت بهزيمة ساحقة، ألقت الجميع، سوريين وفلسطينيين، على الحدود، واستعيدت مشاهد النكبة الفلسطينية على نحو أفظع مما كان. هُزمت ثورات، وتفرعنت ثورات مضادة، وكشفت الأنظمة عن وجهها الأعمق، المموه أحياناً باسم بالتضامن العربي، أو باسم فلسطين.

كان حدث أقل من هذا، في ما مضى، يشعل الجماهير، من المحيط الثائر إلى الخليج الثائر. أما الآن، فلا الأنظمة تجد نفسها مضطرة للتمويه وادعاء الوقوف إلى جانب القضية، ولا الجماهير لديها الأمل في أن صوتها قادر على التغيير. لقد قرأت لناشط فلسطيني يقول إنه ذهب إلى ساحة في رام الله للاحتجاج على صفقة القرن، فوجد مئة وخمسين محتجاً يرفعون صورة الرئيس الفلسطيني، فعاد أدراجه.

إنه الخذلان إذاً، وشعور عارم بالخيبة. ربما يستذكر الفلسطينيون، هذه الأيام، أن انتفاضتهم العظيمة الأولى التي احتفى بها العالم كله وشكّل علامة تاريخية فارقة في نضالهم، لم تُفضِ إلا إلى "أوسلو"، الاتفاق الذي أدى إلى أسوأ حال يعيشها الفلسطينيون.

مع ذلك، فقد تفاءل المتفائلون في تلك الأيام، إلى حدّ أنهم راحوا يستعيدون عبارة شِعرية شهيرة: "والآن، ماذا سيحلّ بنا من دون برابرة"، فقد وعدوا أنفسهم منذ تلك اللحظة بحياة مترفة من دون أعداء!

اليوم، الأسوأ من الهزيمة هو هذا الشعور المرّ بانعدام الأمل. فمع تكاثر السكاكين، ستفجعك أصوات محسوبة على "الربيع العربي" حين تصرخ بشماتة "فليقلع الفلسطينيون شوكهم بأيديهم"! وعدا عن أن القول يشمت، فإنه يرمي إلى الإيحاء بأن العرب قضوا أعمارهم يقلعون شوك الفلسطينيين، وبأن الأخيرين هم سرّ المصيبة! فانظروا الضحية حين تستقوي على الضحية، وانظروا مقدار الخيبة والخذلان والإحساس بتصفية القضية.

لم تعد قصيدة "والآن، ماذا سيحل بنا من دون برابرة" ممكنة هذه الأيام، ولا في السنوات العجاف المقبلة، مع وعد أميركي ينعش "وعد بلفور"، بل ويتفوق عليه. ربما كان الأحرى أن نقول: "والآن، ماذا سيحلّ بنا مع كل هؤلاء البرابرة". صحيح أن هذه تعني استعادة لصيحة أخرى يائسة، كانت تتردد بين الفلسطينيين إثر كل مصيبة، اتفاقية سلام مذل، أو مجزرة: "يا وحدنا!"، لكن الـ"وحدنا" هذه المرة قد تعني الضحايا جميعاً، سوريين هائمين على وجوههم في أرجاء الأرض، وفلسطينيين يهجّرون مرة تلو المرة في شتات بلا قرار، وربما عراقيين يقتلون في الشوارع من غير رأفة، ولبنانيين يصرخون سدى في الساحات..

إنه حقاً وقت هذه الصيحة: "والآن، ماذا سيحلّ بنا مع كل هؤلاء البرابرة". وبلى، إنه اليأس، ولا أحد يدري كيف سينفجر. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024