د.راوولت "الجازم" بعلاج كورونا.. عنوان الصراع بين باريس ومارسيليا

حسن مراد

الإثنين 2020/06/01
الدراسة التي نشرتها المجلة الطبية The Lancet في 22 أيار/مايو الماضي، توّجت مسلسلاً طويلاً من الأخذ والرد حول استخدام مادتي الكلوروكين والهيدروكسي كلوروكين في علاج الكورونا. 

فريق البحث التابع لجامعة هارفرد لم يستطع التثبت من فعالية هذا العلاج، وهي مسألة سبق أن أثارها عدد من الباحثين والأطباء. الملفت هي الخلاصة الأخرى التي تم التوصل إليها: فقد ظهرت على عددٍ من المصابين الذين واظبوا على تناول هذه الأدوية، أعراض جانبية (خاصة على مستوى عمل القلب) ما أدى إلى حالات وفاة أو زاد من احتمالها بنسب متفاوتة. وهي خلاصة تطيح بالنظرية القائلة أن لا ضير من وصف الأطباء للكلوروكين أو الهيدروكسي كلوروكين حتى وإن لم يتم التثبت دولياً من فعاليتهما، فهذه الأدوية لن تتسبب بأي أذى للمصابين.  

وبما أن هذا العلاج ارتبط بفرنسا وتحديداً بإسم البروفيسور ديديه راوولت الذي كان أول من أعلن عن إجراء تجارب "ناجحة" في شهر مارس/آذار الماضي، سارع وزير الصحة الفرنسي إلى تحويل هذه الدراسة، وسواها من التقارير والأبحاث، الى المجلس الأعلى للصحة العامة وللوكالة الوطنية للأمن اللذان أوصيا بوقف العمل بهذا العلاج كخطوة احترازية وهذا ما جرى. من جهتها بادرت منظمة الصحة العالمية إلى تعليق التجارب المخبرية في هذا المجال.

ديديه راوولت وصف الدراسة بالـ"فوضوية" بعدما اكتفت بالاطلاع على ملفات مصابين بالكورونا عوضاً عن اجراء اختبارات ميدانية، إلى جانب اتهامه فريق البحث بالتلاعب بالنتائج.  

بطبيعة الحال تأجج الجدل مجدداً في الشارع الفرنسي بين مؤيد ومعارض، خصوصاً أن الملف أخذ منذ البداية أبعاداً أخرجته من قالبه الطبي -العلمي.

بنظر العديد من المختصين، شابت اختبارات البروفيسور راوولت عيوب فادحة، أبرزها عدم احترامه البروتوكولات الطبية والمتفق عليها دولياً لضمان سلامة المرضى. إلا أن الأخير اعتمد في رده على الهجوم الشخصي والاستخفاف بمعارضيه مع الإكثار من الإطلالات الإعلامية والمقابلات الصحافية، بدلاً من تقديم حجج علمية مضادة، وبالتالي، تم إخراج النقاش من إطاره العلمي كشف الاستراتيجية الاعلامية التي لجأ إليها راوولت لتسويق ما توصل إليه من نتائج.  

بدايةً، استغل حالة الهلع التي تسببت بها الكورونا، والذي دفع للتعلق بكل قشة. من هنا نفهم تسرعه في الكشف عن النتائج الأولية لاختباراته وكأنها نهائية، بغاية جذب الاهتمام إليه. تحول الهلع إلى ضغط شعبي وإعلامي ما اضطر المديرية العامة للصحة في فرنسا إلى استيعاب الموقف عبر السماح بوصف هذا العلاج للحالات المستعصية، فيما كان المنطق العلمي يفرض التروي والتوسع في التجارب.

الأمر الثاني الذي ساهم بدفعه لواجهة الأحداث هو المناخ السياسي الذي عرفته فرنسا في الآونة الأخيرة. فالأداء الرسمي لم يلقَ استحسان الشارع والرأي العام بعد التصريحات المتناقضة لكبار المسؤولين وقراراتهم غير المتسقة، ما وَفّرَ لأحزاب المعارضة الأرض الخصبة للتصويب على الحكومة. 

ما إن توسّع راوولت في تصريحاته الصحافية، معلناً رفضه الانصياع للإجراءات الرسمية، حتى تلقى دعماً سياسياً خاصة من أحزاب أقصى اليسار واليمين المتطرف. 

فاليمين المتطرف من أبرز المسوقين لنظرية المؤامرة، لا سيما اتهامه السلطات الرسمية بالتقاعس عمداً عن ضبط الأمور في مسعى منها للتخلص من كبار السن الذين يشكلون عبئاً مادياً على الدولة. بالتالي، فور إبداء الجهات الرسمية الفرنسية حذرها من الأخذ بهذه النتائج، روّجت الماكينة الاعلامية لليمين المتطرف لفكرة "القطبة المخفيّة". 

من ناحية أخرى، تشديد راوولت على توفر الدواء بثمن زهيد حمل هجوما مبطنا على شركات الأدوية متهما إياها بمحاربته لأسباب مادية وهو ما لقي آذانا صاغية لدى جمهور أقصى اليسار.

أخيراً، إستغل راوولت وجود معهده IHU-Méditerranée Infection في مرسيليا، ثالث المدن الفرنسية، موظفاً الأمر لصالحه. 

فتاريخ مارسيليا جعلها تتمتع بنوع من الاستقلالية في تسيير شؤونها. وفي أكثر من مناسبة تمردت المدينة على السلطة الملكية الفرنسية التي اتخذت من باريس عاصمة للحكم، حتى أن لويس الرابع عشر جرد، في العام 1660، حملة عسكرية لتأديب سكانها. وحين رفضت مارسيليا الاعتراف بسلطة المؤتمر الوطني الفرنسي إبان الثورة الفرنسية، عوقبت بإعلانها "مدينة بدون اسم". 

التاريخ الفرنسي حافل بالمحطات التي تؤرخ العلاقة المتوترة بين باريس ومارسيليا: باريس جسّدت السلطة، فيما تحوّلت مارسيليا إلى عنوان للتمرّد. هو توتر لا يزال يرخي بظلاله مع شعور أبناء مارسيليا أن السلطة السياسة ووسائل الاعلام تتعمد شيطنتهم عبر تصوير مدينتهم، دون سواها، كملجأ للخارجين عن القانون. 

تشبث  مارسيليا  بهويتها  المحلية، من دون أن تكون لها نزعة  انفصالية، دفع براوولت إلى  الاستثمار في هذا الواقع، فنعت جميع معارضيه بـ"صغار النبلاء الباريسيين"
(Des petits marquis parisiens)، حاصداً بذلك دعم وتأييد أبناء هذه المنطقة التي باتت معقلاً له.

السياق العام الذي طرح فيه ديديه راوولت نتائج اختباراته أثار اهتمام الصحافة الاستقصائية، موقع ميديا بارت نشر تحقيقاً في الثامن من نيسان كشف خلاله ما يدور في أروقة معهد IHU من تجاوزات. 

وفقاً لـ"ميديا بارت"، يعطي هذا المعهد الأولوية لنشر أكبر عدد ممكن من المقالات من دون الاكتراث لقيمتها العلمية. على سبيل المثال، بين العامين 2011 و2016 نشرت وحدة الأبحاث Mephi ما لا يقل عن 2000 مقالة علمية، لكن 4% فقط من هذه الأبحاث شكل قيمة مضافة من الناحية الأكاديمية. حتى أن راوولت أنشأ مجلة New Microbes and New Infections لنشر مقالاته التي ترفضها المجلات العلمية المرموقة. مجلة حامت حولها علامات استفهام لناحية الحيادية العلمية بعدما اتضح أن عدداً من الباحثين في معهد IHU هم أعضاء في لجان تقييم المقالات. 

وفي العام 2006 أصدرت مجلة American Society for Microbiology  قرارًا قضى بمنع راوولت من النشر، لمدة عام، على صفحاتها بعد اتهامه بالتلاعب بالبيانات والنتائج. وسبب الإصرار على الكمية بدلاً من النوعية أنه كلما ارتفع عدد المقالات المنشورة زاد التمويل.  

والتقت "ميديا بارت" بطلاب دكتوراه، أجروا أبحاثهم داخل معهد IHU، متناولين الأسلوب الملتوي وغير المنهجي المُعتمد من قبل الإدارة: بصورة منتظمة يطرح راوولت نظريات علمية، فارضاً على الباحثين إثبات صحتها بأي ثمن. وبما أن أي رسالة دكتوراه تتطلب اتفاقية موقعة بين الجامعة وأحد المختبرات، اضطروا للتلاعب بالنتائج خشية من انسحاب المعهد من الاتفاقية وبالتالي خسارة شهادتهم. 

في هذا الإطار يجدّر التوقّف عند زيارة إيمانويل ماكرون للمعهد ولقائه بعدد من الطلاب الأجانب. ميديا بارت أتت على ذكر هذه النقطة، أي فتح المعهد أبوابه للطلاب الأجانب على نحو واسع "لسهولة الضغط عليهم". 

ما لمحت إليه ميديا بارت هو تجديد أوراق إقامتهم، فانسحاب الـIHU من أي اتفاقية تخص طالباً اجنبياً لا يؤدي فقط إلى خسارة الأخير لشهادته بل سيتسبب بترحيله، فتجديد إقامة الطالب في فرنسا يتوقف على تحصيله الجامعي. حتى على الصعيد المالي وبخلاف ما يدعيه راوولت من استقلالية، كشفت ميديا بارت عن تلقي IHU تمويلا من جهات متعددة بينها شركات أدوية. 

تحقيق "ميديا بارت" يؤكد ما ذُكِرَ أعلاه حول تسرع راوولت في نشر اختباراته الأولية الخاصة بالكورونا وتقديمها على أنها نهائية. 

حتى اللحظة لم يتمكن أي من الفريقين من حسم المعركة لصالحه. قد يتضح مستقبلاً صحة ما طرحه ديديه راوولت، أو العكس، لكن أسلوبه الصدامي يدفع لا إرادياً إلى توخي الحذر مما يصدر عنه. فمثلما يسوّق مناصروه لفكرة أن الظرف الاستثنائي يفرض تجاوز البروتوكولات الدولية، يحق لمعارضيه الانطلاق بدورهم من استثنائية الظرف لقطع الطريق على أي "متسلق محتمل" يسعى لتحقيق مكسب على حساب السلامة العامة. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024