النظام يعيد الاعلام الى سجنه الكبير

وليد بركسية

الجمعة 2018/12/28

برهن النظام السوري طوال العام 2018 أنه يرغب في إعادة سيطرته على الإعلام وتدفق المعلومات في البلاد، بعد سنوات التشظي التي فرضتها الحرب السورية وسمح فيها للعديد من الأصوات الموالية بالتحدث بحرية نسبية، لحاجته إلى أصوات غير رسمية تضخ المعلومات والآراء التي يريد إيصالها للبيئة الموالية بالدرجة الأولى.

ومع انحسار الحرب في البلاد، بسبب الانتصارات التي حققها النظام على المعارضة، بمساعدة حلفائه الروس والإيرانيين، واستعادته السيطرة على مناطق جغرافية واسعة كانت في يد المعارضة، مثل حلب ودرعا اللتين تمتلكان رمزية خاصة للثورة السورية، باتت هناك حاجة ماسة لفرض الاستقرار في البلاد، ويعني ذلك نظرياً من وجهة نظر النظام، ضبط الإعلام وإعادته إلى مركزيته، بموازاة وضع حد للميليشيات الموالية.

لكن على أرض الواقع كانت المعادلة مختلفة، فالميليشيات أثبتت أنها مازالت تمتلك قوة كبيرة في مناطق سيطرة النظام، ويتحدث كثيرون عبر مواقع التواصل عن التشبيح الذي تمارسه في تفاصيل الحياة اليومية، كما ارتبطت العديد من حالات قمع الإعلام الموالي خلال العام الجاري، بتلك الميليشيات التي ترتبط بمسؤولين نافذين في النظام السوري، حيث بات من المحرمات توجيه النقد للتجاوزات وعمليات السرقة للمواطنين السوريين، بطرق مختلفة.

الدليل على ذلك، تؤكده حالات قمع متكررة لناشطين موالين انتقدوا سلطة الميليشيات أو المسؤولين المرتبطين بها، وأبرزها مراسل قناة الميادين في حلب، رضا الباشا، الذي كرس كثيراً من تغطياته للحديث عن عمليات التعفيش في حلب، وبدرجة مماثلة قضية إذاعة "سوريانا" التي أقال وزير الإعلام عماد سارة مديرها وضاح الخاطر، قبل فرض عقوبات مالية عليها من طرف وزارة المالية، لتوجيهها انتقادات لمسؤولين حكوميين.

والواقع أن رغبة النظام في إحداث تغييرات جذرية في الأداء الإعلامي الرسمي وشبه الرسمي "المنفلت" تتحدد بتخفيف مظاهر العسكرة فيه، مع ترويج النظام بشكل متزايد على فكرة نهاية الحرب، رغم كونه يخوض معارك متفرقة في مناطق كإدلب والغوطة الشرقية، فضلاً عن ضبط الصورة وتدفق المعلومات عبر مواقع التواصل، وحصر ذلك بالصور والمعلومات التي يوافق عليها أولاً، فأطلق النظام حلة بصرية جديدة للتلفزيون السوري، كما بدأت نشرات الأخبار والبرامج السياسية تتراجع لصالح البرامج المنوعة والدراما، بعدما عاشت تلك القنوات أجواء الحرب خلال السنوات الماضية، لتنتقل اليوم إلى نوع جديد من البروباغندا غير العسكرية.

يحيل ذلك إلى قمع النظام للناشطين الميدانيين الذين رافقوا جيش النظام خلال السنوات الماضية، والذين اختفوا من مواقع التواصل تدريجياً. فالناشط الموالي إياد الحسين (39 عاماً)، الذي كان واحداً من أكثر ناشطي النظام متابعة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، واشتهر بمرافقته جيش النظام في إدلب ومناطق أخرى وظهر مرات مع العقيد سهيل الحسن الملقب بالنمر، اختفى عن مواقع التواصل، وتحدث في بعض المنشورات عبر صفحته الشخصية في "فايسبوك" عن اجتماع، عقده مسؤولون في النظام مع أبرز الناشطين الموالين لتقديم توجيهات جديدة لهم من أجل طبيعة نشاطهم المقبل، من دون تحديد طبيعة تلك التوجيهات أو تاريخ ذلك الاجتماع.

وأشار الحسين، المتواجد حالياً في العاصمة اللبنانية بيروت على غرار العديد من الناشطين الآخرين، إلى أن التوجيهات تتضمن تقليلاً من النقد للمسؤولين والحديث عن الإيجابيات، على غرار الإعلام الرسمي طوال العقود الماضية، وهو ما رفضه العديد من الناشطين الموالين الذين يتحدثون باستمرار عن "النقد المسؤول"، ومنهم وسام الطير، صاحب صفحة "دمشق الآن" أكبر الصفحات الموالية، التي توقفت عن النشاط في وقت سابق من الشهر الجاري، بعد أيام من اعتقال الطير من دون الكشف عن مصيره أو أسباب اعتقاله، علماً أن الطير وشبكته توقفا عن العمل في شهر آذار/مارس الماضي بعد منعه من مرافقة رئيس النظام بشار الأسد إلى الغوطة الشرقية.

ومن المثير للسخرية أن كل أولئك الناشطين، وغيرهم، يتحدثون عن حرية الإعلام والصحافة، في سوريا الأسد، وهم الذين دافعوا عن النظام السوري باعتباره دولة شمولية طوال سنوات الثورة السورية. ولا يدرك أولئك الناشطون أن النظام لا يعترف أصلاً بحرية التعبير كقيمة في الدولة وعقدها الاجتماعي، كما لا يدركون أنهم مجرد أدوات كان النظام بحاجة إليها في فترة محددة، لبث البروباغندا ونشر الدعاية الإيجابية للجيش السوري وحلفائه وتعزيز العسكرة والدعوات للتجنيد، أما هامش النقد الذي سمح به فلم يكن إلا وسيلة لامتصاص غضب البيئة الموالية من تردي الواقع الخدماتي والمعيشي والاقتصادي في مناطق سيطرة النظام، عبر توجيه ذلك الخلل إلى "الجماعات الإرهابية المسلحة" أو إلى "الفاسدين"، وتبرئة رموز النظام من كل الخلل الذي يكرر نفسه في البلاد منذ عقود.

هذه الحالة دفعت العديد من الناشطين الموالين للاستنكار والتساؤل بسذاجة كالناشط أيهم غانم في اللاذقية: "هل انتهى دورنا كنشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي بإنتهاء الحرب؟ هل ستقوم الحكومة بتوقيفنا عن العمل بدل أن تقوم #بتكريمنا على الجهد الذي بذلناه؟ ننتظر الإفراج عن وسام الطير والتوضيح حول ما جرى... هل كان بسبب خطأ فردي من وسام أم أن الموضوع عام وكلنا رح نعمل زيارة متل وسام".

إنها نهاية حقبة على ما يبدو، فهذه القرارات، بالإضافة إلى قرار وزارة الإعلام بايقاف المراسل الحربي الابرز في سوريا شادي حلوة وإبعاده عن برنامج "هنا حلب" قبل منعه هذا الشهر من التغطية في محافظة حلب، تؤكد أن قراراً اتخذ بإبعاد كل ما يرتبط بالميدان والعمل العسكري، عن الإعلام، حيث يسعى النظام لترويج صورة الدولة المستقرة أمام العالم، كشرط ضروري للاعتراف بشرعية النظام مستقبلاً ولإعادة الإعمار أيضاً.

وعليه فإن إعادة ضبط البث الاعلامي بما لا يخرج عن سيطرة النظام، أو لا يهدد صورة "الدولة" التي تعمل روسيا على إعادة تأهيلها، بعد سنوات التشظي والفوضى، هي ضرورة وجودية للنظام في هذا التوقيت، تنتفي معها أي حاجة للتغريد خارج الصوت المركزي الوحيد في دمشق، مثلما كان عليه الحال في حقبة حافظ الأسد الحديدية بالنسبة لحرية التعبير. كما تنتفي أي حاجة لصناعة رجالات ورموز لفترة الحرب، كسهيل الحسن أو عصام زهر الدين، مع إعلاء "راية الجيش السوري" كرمز واحد يضاف إلى رمزية عائلة الأسد التي تبنى حولها خدعة الاستقرار في سوريا.

بعكس ذلك، فإن سوريا التي غادرتها القوات الأميركية وبدأت فيها ظلال معارك جديدة في الشمال والشرق، خصوصاً بعد عودة دول عربية لافتتاح سفاراتها في البلاد، في تسابق مع تركيا وإيران لملء الفراغ الأميركي، ستمثل بالتأكيد نسخة ممزقة من سوريا قبل الحرب، ففيما تنتهي الحرب تدريجياً سيواجه الاستقرار تحديات عميقة أفرزتها الحرب أو كثفت وجودها القديم، كما أن الميليشيات مازالت فاعلة بقوة حتى لو تم التعامي عنها في الإعلام، وبالتالي فإن الدولة القمعية التي سيديرها بشار الأسد وداعموه في طهران وموسكو، بقسوة، ستبقى هشة مع تحولها لكانتونات طائفية وإثنية متصارعة، والتسليم بإن الدولة التي عرفت يوماً باسم سوريا توقفت بالفعل عن الوجود.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024