كلنا سمعان العمودي

قاسم مرواني

الأحد 2019/03/31
10 لايكات في "فايسبوك". هذا ما حصده آخر بوست كتبته، أقرر بعدها أن لا داعي لأن أنقل أفكاري للعالم وبأن كل ما سأقوله لن يغير شيئاً. 

أقنع نفسي في الجلوس داخل القوقعة، المكان الآمن. كان الوضع على العكس تماماً منذ سنوات، كان ما أكتبه يلقى قبول عدد لا بأس به، يعجبون، يعلقون ويشاركون ما أكتبه، كنت مقتنعاً حينها أن علي الصراخ حتى يبكي العالم. كنت أنشر على الفايسبوك كل يوم تقريباً.
أدرك جيداً أن الدماغ، كردّ فعل دفاعي، يقنع نفسه بالحقيقة التي يراها مناسبة له: التقوقع أو الانفتاح على العالم. لكن لماذا تشكّل حفنة من اللايكات مصدر قلق له؟

منذ حوالي 1700  سنة في سوريا، عاش ناسك مسيحي يدعى سمعان، أول من ابتكر طريقة التنسّك على العمود، قبل ذلك كان قد طرد من الدير بسبب أفعاله الأقرب إلى الجنون فالتجأ إلى البرية ثم وجد عموداً فتسلّقه وبدأ حياة التنسك فوقه، منقطعاً عن العالم. 

ما لبثت هذه الطريقة الجديدة في التنسك أن أثارت إعجاب الناس الذين بدأوا يقصدون سمعان وعموده للتبرّك ونسجوا حوله الكثير من المعجزات. لم يمض وقت طويل حتى وصلت أخبار سمعان إلى روما وما فقده في الدير من الإعتراف والتقدير وجده على العمود. كان المشهد، على قياس تلك الأيام، آلاف الناس يضعون اللايكات إعجاباً بسمعان وتقديراً لعمله، ما دفعه للبقاء فوق عموده لأربعين عاماً. لولا إعجاب الناس ولايكاتهم لنزل بعد أشهر قليلة.

أضحك حين أقارن نفسي بسمعان العمودي الذي أصبح في ما بعد قديساً. أجد نفسي كما كل الآخرين باحثاً عن الإعتراف والتقدير، جزء من الطبيعة البشرية لكن لماذا على الفايسبوك؟

حين ينشر أحدهم كتاباً أو إذا رسم لوحة فنية فإنه سيبحث عبثاً على التقدير لعمله، إذ أن الناس في مجتمعاتنا العربية، بمعظمهم، بعيدون عن الثقافة والقراءة. لذلك يلجأون إلى الفايسبوك للحصول على التقدير اللازم، لايكات، يختار كل فنان عموداً يتنسك عليه ويتحول إلى سمعان آخر. 
هذا مع الفنانين، أما البقية، فلماذا ينشرون؟ 

كل إنسان بحاجة إلى التقدير على عمله. في مجتمع إستهلاكي كمجتمعنا، تنتفي قيمة العمل حتى بالنسبة للعامل نفسه. بالنسبة له، فإنه يغادر منزله في الصباح ويعمل حتى المساء من أجل الراتب آخر الشهر ولا يشعر بأي انتماء لشركته ولا بانتماء ما ينتجه إليه. مع ذلك لا زال بحاجة إلى التقدير وهو مستعد لأجل ذلك لأن يجلس على العمود وأن يستعرض أمام الناس كل ما قد يأتي له باللايكات: صور أطفاله، وجبات طعامه، رحلاته، يومياته، متخلّياً عن أكثر حقوقه قدسية: حياته الشخصية. 
طوبى للذين يحصلون على التقدير من ذواتهم، طوبى للفلاحين حين تقدّرهم حبات الطماطم وسنابل القمح والشمس حين تمدّ أجسادهم بالحرارة في يوم بارد. طوبى لهم لأنهم الآن يهزأون بسمعان وعموده.
قال أحدهم يوماً بأن العقل البشري يشبه ريش الطاووس، مجرد عرض باذخ لجذب شريك ما، أي أن كل الفنون والآداب، موزار، شكسبير ومايكل أنجلو ومباني الإمبراطوريات ليست سوى طقوس زواج متقنة. أي أن كل ذلك البحث المضني عن التقدير هدفه جذب شريك ما لكن ماذا لو كان أقصى ما نستطيع فعله غير كافٍ؟ عندها سيكون جلوسنا على عمود سمعان مثيراً للشفقة. 
بالطبع الطاووس لا يستطيع الطيران لكنه يعيش على التراب، ملتقطاً الحشرات من الوحل، مواسياً نفسه بجماله العظيم. بمعنى آخر، حتى الأنذال يملكون حساباً على الفايسبوك، اللصوص أيضاً، المجرمون والساقطون وهم جميعاً، مثلنا تماماً، محبون للظهور، يبحثون عن التقدير والاعتراف والحب والجنس، لذلك لن يظهروا الجانب السيء منهم أبداً وحين ينشرون على الفايسبوك، سيفعلون مثلنا تماماً، سيظهرون الجانب المحبوب منهم.

لن يخبرونا عن مشاكلهم العائلية، لن يخبرنا أحد منهم عن فتاة اغتصبها ولا عن عجوز نشلها ولا عن بيت سرقه، لن نعرف عن ليالي تلصلص فيها على جارته أو مارس العادة السرية، سينشر صورته على الشاطئ مع أصدقائه، مع عائلته، سيشجع فريق ريال مدريد، سيكتب منشوراً عن الأخلاق ويهاجم فساد الدولة، ويطالب بحقوق المحرومين، سيكتب النكات عن سائقي الفانات ويسخر معنا من السياسيين وقد يدعونا لاحقاً إلى فنجان قهوة.

هؤلاء قد يكونون نحن، المنافقون، الذين نختبئ خلف صورنا الجذابة ونستر كل الأمور السيئة التي قمنا بها. كلهم يقبعون فوق عمودهم، نسخة محسّنة من سمعان لكنها منافقة. أنا منافق، مثل الجميع تماماً، لكن الفرق بيني وبينهم أنني أعترف بذلك. 


©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024