ماذا بعد التحرش؟

إيناس كمال

الأربعاء 2018/04/25
لم تكن صديقتي، الشابة العشرينية "نهى"، تدرك أن إجابة السؤال ستكون معقدة إلى هذا الحد. كانت تتصور، كغالبية المجتمع: "وإيه يعني.. تحرش يفوت ولا حد يموت"، حادث تحرش صغير يمر ويمضي وتمضي الحياة، إلا أن حياتها انقلبت رأساً على عقب بعد ما تعرضت له.

كانت نشيطة، تتحرك كثيراً، وتحب عملها وتهوى القراءة والتعلم والمثابرة. علمت بفرصة ربما لا تتكرر كثيراً، أن إحدى المجلات العريقة تعطي فرصة تدريبية للشباب. ذهبت بمفردها، وبثقة تحدثت عن سيرتها الذاتية في العمل الصحافي وكم تمنت مثل هذه الفرصة.

مرت أسابيع، كانت صديقتي تسمع من هنا وهناك عن رئيس التحرير الذي يشبه الأفعى، يصدر فحيحاً كلما تحدث إلى إحداهن، وهو يتفحصهن. إضافة إلى قصص مغامراته التي لا يخجل أن يقوم بها داخل جدران المؤسسة الصحافية التي من المفترض أن تسقي فناً وعلماً.

فاجأ الرئيس المبجل، نهى، أثناء اجتماعها معه في مكتبه، حين قفز فوقها وقيدها، بعد نظراته الفاحصة لجسدها. ارتبكت نهى، ودفعته عنها بكل قوتها، ثم هربت راكضة من المؤسسة بأكملها، لاعنة هذه الفرصة المميتة.

خرجت منهارة، تتلمس الطريق ببكائها. عادت إلى المنزل، لا تعرف ما تفعل. في صباح اليوم التالي، وبعدما هدأت، تقدمت بمحضر رسمي، تشكو فيه المدعو رئيس التحرير الستيني، وتتهمه بالتحرش بها والاعتداء عليها. ثار الرأي العام، وانهالت على حساباتها الشخصية في مواقع التواصل الاجتماعي، حسابات مزيفة بلا صور ولا أسماء حقيقية، تتهمها في شرفها وتتهمها بالكذب وتشويهه وتلفيق الاتهام لرئيس التحرير لنيل شهرة إعلامية ما، رغم عدم ظهورها في أي برنامج حواري أو مع أي إعلامي، ورغم إلحاح قنوات إعلامية عديدة لاستضافتها.

بعد أيام، وصلت نهى إلى عمل ثانٍ كانت تزيد دخلها به. وفوجئت بتغيّر شديد في التعامل من المسؤولين، حتى أبلغت أنها في إجازة مفتوحة حتى تحل قضيتها. والرسالة الحقيقية كانت تسريحها نهائياً من العمل، بعد نظرات إتهامية لها من العاملين معها، وكأنها إحدى الفتيات العاملات في الجنس.

ازدادت الضغوط عليها، بعدما وصل البلاغ الذي تقدمت به إلى النيابة، لتفاجأ بنفوذ قوي لرئيس التحرير. أما أقوال وكيل النيابة، الذي أكد في جلستها الأولى معه، مساندتها له، فتغيرت في الجلسة الثانية، لتصبح اتهامات لها، وقد طلب منها ما يثبت الواقعة بالصوت والصورة! ورغم حصولها على نص مكالمات مسجلة، من رئيس التحرير الستيني، يرجوها أن تتنازل عن المحضر ويدعوها للقاء للتفاهم معها، إلا أن النيابة لم تعتد به، وطلبت تسجيل فيديو وهو ما يخالف نص القانون في وقائع التحرش والتعدي على إناث.

ورغم التقدم الذي أحرزته نهى، بمساندة ودعم مؤسسات من المجتمع المدني، ومساندة ودعم الأصدقاء، وكنت أنا إحداهن، إلا أننا جميعاً توقفنا أمام عقبة النفوذ القوي لرئيس التحرير الذي تمكن من إيقاف التحقيق، وحفظ القضية، رغم ظهور شهود على الواقعة، وفتيات أخريات إتهمن رئيس التحرير إياه بالاعتداء عليهن في وقت سابق، وهن لم يستطعن البوح أو التحدث من قبل، لكن إقدام نهى شجعهن أخيراً على ذلك.

بعد أسابيع من حفظ القضية، وحملة التشوية التي شنت عليها، ذهبت نهى لاستجداء فرصة تدريبية أخرى في مؤسسة صحافية عريقة أيضاً. إلا أن رئيس تحريرها، طلب منها صراحة ممارسة الجنس معه، عاقداً مقارنة مع رئيس التحرير السابق، وقال بمنتهى الوقاحة: "أنا مش هكون همجي زيه"، لتخرج الفتاة لاعنة هذه الظروف، وهذا الحادث الذي يبدو أن أثره لن ينتهي معها.

ومرّت أسابيع وشهور، واجهت خلالها نهى اكتئاباً مميتاً، دفعها للانزواء عن الناس، إضافة إلى جلسات الدعم النفسي التي تواظب عليها من حين لآخر لتخطي هذه المحنة وأثرها السلبي، وهي ما منعها من الإقدام على الانتحار...

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024